دخل «السيد» في ليل الصمت. دار بعينيه يحاول ان يكمل ما بدأه. هو بالكاد باشر قول ما لا يقال، وسط ذهول أولئك الذين لا يجرؤون على سماعه. لماذا يمتنع الناس عن فتح عقولهم والصدور؟ لماذا يئدون أفكارهم البكر المؤهلة لأن تصنع تاريخاً جديداً؟
تعب القلق من «السيد». كلما توقع ان يرتاح سيده فيريحه عاد يتفجر بالأسئلة. هو يعرف الأجوبة جميعاً، ولذلك لا ينتظر جواباً من أحد، ولكنه يريد أن يواجه الجميع أسئلتهم عن حياتهم، عن الدين والعقيدة، عن المبدأ والموقف، عن الموت وما بعده، عن السياسة والأحزاب، عن القادة الذين نرفعهم على أكتافنا فندنو من الأرض بينما هم يبتعدون عن السماء.
«السيد» مرجع في اليقين. لكن ذلك لا يريحه. اليقين استسلام. اليقين تعطيل للعقل. انه يدخل اليقين ثم يخرج منه ليمتحن عقله. والآخرون ينظرون إليه فيعجبون من هذا الذي يلجأون إليه بالأسئلة فيكرز عليهم الأجوبة، وحين يغادرون يسأل نفسه: أتراني أعطيتهم الأجوبة الصحيحة؟ ومن قال ان أجوبتي صحيحة وأنا ما زلت أدور في قلب السؤال، لا أنا أخرج منه ولا الجواب يلغيه.
أسعدتني صحبة «السيد» ذات يوم من بدايات الثورة الإسلامية في إيران. حدثني بفرح حقيقي عن هذا الانتصار التاريخي للثورة التي ستعيد للإسلام زخمه الثوري. كان عظيم التفاؤل. حدثني عن الإمام الخميني الذي كنت قد التقيته في نوفل لي شاتو قبل عودته المظفرة إلى طهران. حدثني عن لقاءاته مع هذا القائد الثمانيني الذي يتحلى بروح ثورية وزخم يفوق ما يتميز به الشباب.
لعظيم تقدير الثورة الإيرانية لهذا السيد الوافد من لبنان، والذي كان من السباقين في الدعوة إليها، وقد جال في بلدان عربية عدة بشر بها ويدعو لها، سعيداً بشعاراتها الفلسطينية، وبمقولات الإمام الخميني الداعية لرص الصفوف في مقاتلة إسرائيل، على امتداد العالم الإسلامي.
دعاني إلى مقاسمته «الملحق الضخم» الذي خصصه الثوار لإقامته في مبنى رئاسة مجلس الوزراء. كان فراشه على الأرض. يكفيه إبريق شاي وبعض الخبز والنجاح في توطيد العلاقة بين الثورة الإيرانية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بشخص ياسر عرفات.
كان ممتلئاً باليأس من أهل النظام العربي. وكان مقاتلاً ضد المناخ الطائفي، وبالتحديد ضد السموم المذهبية التي تنشر لزرع الفتنة بين المسلمين ومحاصرة الثورة الإيرانية. وكان يخاف من ردة فعل صدام حسين، ولعله بين أوائل من ذهبوا في التقدير إلى القول بأن صدام حسين سيحارب الثورة الإيرانية وسيهاجم إيران.
لكن الأمل سرعان ما ذوى، وكان عليه ان يتجرع خيبة أخرى فاكتملت عليه الدائرة… وعاد إلى لبنان محبطاً.. وسعيداً. لكأنه كان يبحث عن الإحباط ليؤكد نظريته في ان لا أمل: «عندما تبلغ الثورة باب السلطة يتبدل الثوار.. الحكم عدو الثورة. اسمع ما سأقوله، وهو درس من التاريخ. ستأكل السلطة الثورة. سينقسم الثوار حول السلطة. عد إلى تجربة الإمام علي مع السلطة. نادراً ما ينجح الثوار في إقامة سلطتهم».
مع خروج الثورة الفلسطينية من لبنان رأى هاني فحص ان واجبه ان يظل معها حيث تكون. وقد ظل على صلة بقيادتها حتى النفس الأخير.
«أنا الجنوبي فلسطيني بالعقيدة والموقف وليس فقط بالجغرافيا. وأنا مع الثورة ولو كانت لي ملاحظات عليها».
هو مع أي ثورة وكل ثورة. هو مع التغيير. وقد أخذته استحالة التغيير في لبنان إلى التنبه لخطورة الطائفية. فاختار ان يقتحم أسوار الطوائف بقلمه وفكره ثم بمشاركته في أي نشاط ضد الممارسات الطائفية كافة.
فكره توحيدي. إسلامه يتجاوز المذاهب والطوائف. فكره «علماني» ولو اعتلت قمة رأسه لفة «السيد» السوداء.
شارك في كل تظاهرة ذات طابع علماني. دخل بكركي من بابها العريض، ساهم في حوار الحضارات. تبنى كل حركة علمانية، ووقف أمام المتحف عند أخذ الصورة التذكارية لمن قال بمواجهة الطائفية.
أما في الثقافة فهو بحر، فكراً منفتحاً على الجديد، رافضاً التقليد، نثره يكاد يتجاوز في رقته الشعر، ويكاد يقرب إليك فلسفة الصوفيين.
ابن جبل عامل، النجفي، الذي سكن فقره بقرار شخصي، برغم انه واحد من أغزر الكتاب ثقافة. يكتب بشغاف قلبه إذا أحب ويستنزل أرق لغة وهو يكتب عمن يلتقي معه فكراً وسلوكاً.
اقتحم الطوائف المغلقة على رعاياها. حطم الأبواب. كسر التقاليد، اخترق المحظور. ساند أي ائتلاف أو تلاق أو حوار على امتداد الوطن وصولاً إلى الفاتيكان، صديقه محظوظ إذا ما كتب عنه، وخصمه أيضاً.
قلمه هو علة عيشه. أمضى معظم سني حياته يقرأ، فصار إذا كتب أعجز. نثره نهر متدفق بالثقافة. لقد التهم مكتبات النجف ومكتبات الجامعات في بيروت ودمشق وبغداد، من قبل. صار مرجعية في الثقافة. ما لم يقرأه بلغته قرأه معرباً. والذاكرة تفيض بما تختزن وتغذي كتابته وحديثه، خطاباته ومحاضراته.
هو العاملي الذي يختزن الفقه واللغة وديوان الشعر العربي وأجود ما أبدعه شعراء الصوفية. وهو أحد رواد الدعوى إلى الكفاح المسلح، حتى إذا ما داخلته الشوائب وانحرف السلاح عن هدفه، عاد إلى قلمه داعية ومبشراً بضرورة التغيير.
هو اللبناني، النجفي، الممتلئ بتراث الفكر الإسلامي متعدد المصدر، الذي خذله القدر حين طلب الاستشهاد، فعاش ما يعتبره فائضاً عن عمره.
هو المسلم الشيعي الذي اجتهد لهدم الأسوار التي بناها تجار المذهبيات بين أبناء الدين الواحد، والذي اجتهد مرة أخرى لهدم الأسوار الأعلى والأقسى بين الأديان، كان يعرف ان تلك البدع جميعاً من خارج الدين.
هو عاشق اللغة، المتيم بالشعر، الممتلئ ثقافة، الصريح في موقفه إلى حد الخصومة، والذي خسر الكثير من أصدقائه إما لأنهم فهموا سلوكه خطأ، وإما لأنهم لم يقبلوه كما هو في حين انه لم يعترض على أي منهم، بل قبل الجميع كما هم.
قرأ كثيراً وكتب كثيراً، وظل في عقله ووعيه وقلمه مشاريع غير محدودة للكتابة. يحفظ من الشعر ألف ألف بيت، ومن التراث الإسلامي ما يملأ مكتبة عامة، ومن الفقه الشيعي (والسني) ما يعلو بهامته بين العلماء.
لكن أعظم ما فيه إنسانه. انه بعباءته الرخيصة قلب ملفوف بالشعر.
«بارك يا سيد»… وأنت تتباهى بعباءة جديدة جاءتك هدية، وكانت بيضاء كقلبك.
ننتظرك وأنت تقتحم المكتب مغضباً من موقف، ثم يتضاءل غضبك وتعلمنا ان نحب المختلفين معنا فنكتسب مزيداً من القيمة.
لك الصحة يا سيد.
إننا بحاجة إلى سورات غضبك. بحاجة إلى اعتراضاتك. بحاجة إلى دعاباتك التي تقطر شعراً.
وأنت، أيها الذي ملأ الأرض كتابة وخطابة، ابتدع المؤتمرات، وأحيا من يتوجب تجاهل موته، وفرض حضور من حكم عليه بالنبذ، وكاد يكسر المحرمات لإنقاذ ما لا يجوز إتلافه من الأفكار والآراء.
لا تطل غيابك يا سيد. لقد اشتاقتك المنابر وجلسات الندامى، أيها الرجل الذي قلبه أكبر من عقله… وهذا المصدر الأخطر لتعبه الذي أنهك صمته.