غريب أمري ولعله أمر عادي ومألوف لدى بعض الكتاب. بينما كنت أقرأ للزميلة ليلى الراعي في الأهرام 3 سبتمبر تأملاتها في الذكريات وجدت نفسي مدفوعا بقوة قاهرة للقيام فورا برحلة أخرى من رحلاتي الممتعة في مواقع وأحداث سنوات طفولتي ومراهقتي وما بينهما. ما هي هذه القوة القاهرة؟ أهي مجرد الحنين للماضي؟ ولكن لماذا كل هذه الرغبة الدافقة في إيقاظ سرديات، رغبة تتجدد مع كل فرصة تتاح لنا. أهي ضغط الحاضر ثقيل الظل؟ حاضر نريد الهروب منه ولكن ليس إلى الأمام فالمستقبل بالنسبة للكثيرين ولكبار السن غالبا ما يأخذ صفات المغارة الشهيرة في كتابات الأولين، يدخلها المغامرون ولا يخرجون. أسلم لنا وأقل جهدا الهروب من هذا الحاضر اللئيم إلى الماضي. مع الماضي نحن أحرار في اختيار الأجمل والأكثر متعة والأقوى مفعولا. أراه، وأقصد مفعول ممارسة الحنين إلى الماضي، كمفعول المخدر. يدخل إلى عروقنا ومنها إلى قلوبنا دخول البرد والسلام ثم يحملنا في رحلة نزور فيها أحلى الناس والمواقع التي قضينا فيها ومعهم أسعد أوقاتنا. أذكر من المواقع والأوقات السعيدة مثلا ودائما عشة الفراخ في سطح بيتنا الكبير والقديم في الجمالية.
- • •
أشكرك يا ليلى فقد أثرت بتأملاتك شجونا. كان قد هيمن على تفكيري الظن بأن الكتابة للناس عن ماض يخصني وحدي أمر يجب أن يخصني وحدي فلا أطلع عليه الناس. تمردت مرارا على هذا الظن فلا يمر وقت أخاله طال إلا وعدت أتأمل في الماضي أمامهم وفي حضورهم. تدفعني للتمرد على هذا الظن عوامل كثيرة ليس أقلها شأنا ثقتي الكاملة في حقيقة أن داخل عقل كل فرد من هؤلاء الناس بذرة تمرد وفي قلب كل منهم نقص عاطفي ولدى كل منهم رغبة لن يشبعها الحاضر، إنما يشبعها ويفيض التأملات في الماضي، ففي هذا الماضي توفرت كل عناصر وحاجات إشباعها.
الصدر الحنون متوفر هناك. أقصد في بحر التأملات. متوفرة أيضا رحلة الفجر فوق عربة كارو يجرها حمار. تحمل صندوقا من خشب مشغول لا ينزل من الصندرة إلا كل عيد. داخل هذا الصندوق وكنت شاهدا مهذبا خلال حشوه بأنواع شتي من المخبوزات والبلح الإبريمي والجوافة إن كان موسمها يتناسب وهذا العيد وفواكه أخرى. المخبوزات في الصندوق أشكال وأنواع لم أرها في مكان ووقت آخر بقية العام منها فطير القرافة المعجون بالسمن البلدي والشليك أو الشريك وربما لو بحثنا في أوراق الحملة الفرنسية لعثرنا على أصله واكتشفنا أن له صلة بالكرواسان والباجيت فخر خبازي فرنسا عبر التاريخ. تجلس فوق الصندوق أصغر المشتغلات بالخدمة ومن أهم مهامها في هذه الرحلة تأمين هدوئي وكبح شقاوتي وفرض التزامي مكاني فوق الصندوق في وسط العربة وأبعد ما يمكن عن العربجي وحماره. حول الصندوق وحولي تتكدس سيدات وفتيات أغلبهن يشتغلن في بيت جدتي وبيوت بناتها، أمي وخالاتي، بعضهن لا أراه إلا في وقفة كل عيد وفوق هذه العربة. منهن من اشتغلت صغيرة في العائلة قبل أن تحيل نفسها للتقاعد في الأوقات العادية وتعود للظهور فقط في المواسم وبخاصة في الأعياد.
تصعد العربة الشارع، امتداد المعز لدين الله، مارا بسوق الزيتون والليمون قبل أن تعبر باب النصر إلى خارج مدينة القاهرة. نساء العربة ينشدون أناشيد شعبية خاصة بهذا اليوم. قضيت وقتا حقيقيا أبحث عن الأحياء منهن للاستدلال عن كلمات ولحن هذه الأغنيات. لم أجد. كلمات فيها فرح اللقاء المنتظر مع أهلنا في القبور وحزن على غيابهم، كلاهما معا في أنشودة واحدة بلحنين منفصلين ولكن منسجمين. عند الوصول إلى بوابة المقبرة أنزل من العربة محمولا من حضن إلى آخر. آخرها عند فسحة الاستقبال تجلس أكبر السيدات سنا لتتولى من هناك مسئوليتين، مسئولية الإشراف على إنزال الصندوق وإدخاله إلى غرفة استقبال داخلية ومسئولية تأميني إلى حين وصول جدتي وبناتها وجيش الأحفاد من صبيان وبنات.
أذكر أنني كنت أنتظر بشغف عودة الرجال من صلاة العيد بعد شروق الشمس. يعودون ومعهم صواني الحلوى متنوعة الأشكال والأنواع. يتناولون في البيت إفطارا سريعا ويطمئنون إلى أن نساء البيت سبقن إلى “القرافة” وعادت عربات الحنطور لتنقل سادة البيت. هنا في القرافة انتهي العمل الجاد في إعداد وتنظيف غرف الاستقبال والحديقة استعدادا لاستقبال الضيوف. ما أن يصل أطفال العائلة ومراهقوها إلا وتدب الحركة في الساحة القريبة. تشتغل المراجيح والألعاب الأخرى ويصل سكان، أو ضيوف، المقابر الكائنة على جانبي الشارع الطويل الممتد إلى قلب الصحراء المزدانة بأشجار وخضرة متنوعة. بحلول صلاة الظهر اكتمل الحي في شكل مدينة عشت أشبهها بمدن الخشب التي كان يشيدها المستوطنون في الغرب الأمريكي كما ظهرت في أفلام رعاة البقر، وكانت مشاهدتها إحدى أهم هواياتي في سن المراهقة.
- • •
اللغز الذي ظل عصيا على الحل هو المتعلق بكوننا، الأستاذة ليلى وأنا، نتذكر بجلاء تام أحداثا وقعت في وجودنا ونحن دون الرابعة أو الثالثة من العمر. معي يظل اللغز أشد تعقيدا لما أتذكره عن تفاصيل شارع أمير الجيوش الجواني والرجال بجلاليبهم البيضاء وبائع البليلة والمسجد المواجه للبيت، كل هذا وأكثر أراه وأراقبه من موقعي داخل بروز في شكل قفص في مشربية غرفة الاستقبال في بيت جدتي. أن أكون داخل هذه المشربية لساعات معناه أنني كنت في عمر لا يتجاوز سنة أو حوالي السنة.
هذه الذكريات وغيرها ترتبط بحكم طبيعتها ببشر رحلوا وبأحياء تغيرت ملامحها بتغير صفات المجتمع وتكوينه، ارتبطت أيضا بأمكنة لمجرد وجودها وزخرفتها وما كانت تسره من حكايات وأساطير. بقيت لنا هذه الذكريات تساعدنا، ليلى وأنا وغيرنا، نحكي لكم حكايات ونعيش نحن مع التأملات.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق