طلال سلمان

تأخر الخريف فجاء دافئا وحنونا

كانت الأقدار كريمة معي. لم تبخل بأسباب الفرح والسعادة. نعمت بالذرية الصالحة والزوجة المطيعة تماما كنص الدعاء الذي صاغته وكررته جدتي على مسامعي وأنا طفل في الثانية من العمر جالس على فخذها تشاركني فيه واحدة أو أكثر من بنات خالاتي. عشت بعض سنوات حياتي أتمتع بجمال خارق لطبيعة مذهلة وسنوات أخرى في كنف شعوب تألقت في صنع أطايب الطعام والشراب، وللمفارقة تألقت في صنع حضارات واحتلت مساحات في سجلات التاريخ. حصلت على فرص عديدة منها أبي وأمي ومسؤوليات متنوعة ورؤساء ومرؤوسين وصداقات وعلاقات، منها مجتمعة تكونت لي شخصية لا أزهو بها ولكن بالتأكيد لا أشكو من نقص فيها أخجل منه.

عشت أياما رائعة في مكان أو آخر. بعض تلك الأيام كان في القاهرة بوجهيها، قاهرة المعز والقاهرة الخديوية وأطرافهما. أذكر جولاتي السياحية فيها مع أبي. عشت طفولتي قريبا من أبواب القاهرة، النصر والفتوح وزويلة، وقضيت في الصاغة والعطارين وبين القصرين والمعز ساعات وساعات بالنهار كما بالليل، وأكلت في مطعم الدهان مرات ومرة مع أساتذتي وزملاء السنة الرابعة النيفة والكباب وفتة الأكارع وصواني اسماعيل باشا احتفالا بتخرجي بشهادة العلوم السياسية. نفس اللحظة عشتها مرة أخرى في مطعم شهير في مدينة مونتريال في احتفال بحصولي على شهادة الماجستير. كانت المرة الأولى التي أتناول فيها شريحة لحم مشوية بعد عامين من تقشف شديد في الانفاق دفعت به ظروف الدراسة والمعيشة. لا أخفي، ولم أخف وقتها، صعوبة تنفيذ قرار العودة إلى الجامعة بعد غياب أحد عشر سنة عن التلمذة في خدمة الدبلوماسية المصرية أتجول وألاحظ وأتعلم وأقارن بين الهند والصين وإيطاليا وشيلي والأرجنتين.  تلك كانت سنوات في ربيع حياتي. لم تكن كلها سنوات بهجة ولا كانت كلها سنوات مشقة. كانت سنوات ربيع كربيع مصر، تعكر الخماسين بعض إيامه.

•••

أذكر من خماسين ربيعي أمثلة فارقة، اثنان اقتربا من خط النهاية، نهاية مبكرة لحياتي. الأول حين “تطوعت” لاجراء عملية جراحية غير مأمونة الجانب ولا مأمونة العواقب. أقول تطوعت لأنني لم استجب لنصيحة أطباء باتباع نظام غذائي طويل الأجل ووافقت، على غير مضض، على اقتراح طبيبين إجراء جراحة لا تجرى إلا نادرا وفي حالات خاصة جدا. يقول الجراح الإيطالي المتدين جدا أن قوة خارقة تدخلت فأوقفته وأجبرته بعد أن فتح البطن أن يطلب استشارة رفيق وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. جرى البحث عن الرفيق وقد عثرت عليه شرطة الطوارئ خارج المدينة في حفل ساهر وجرى استدعاؤه. عند الفجر تقرر عدم الاستمرار في تنفيذ الجراحة والعودة بسرعة ودون مزيد من التأخير عن خط النهاية.

قبل هذه الجراحة بثلاثة أعوام وكنت في طائرة تقلني وعائلتي من هونج كونج إلى القاهرة في طريقنا إلى مقر عملي الجديد في روما. كانت ليلة عاصفة يعرف مثلها كل من عاش في بلاد تتعرض للهجمات الشرسة التي تشنها الرياح الموسمية. يذكر للطيار نجاحه في تجاوز الأقاليم الحرجة الواقعة على خط الرحلة بالابتعاد قليلا عنها إلا أنه عاد إلى منطقة الخطر عندما اقترب من بومباي، المسماة الآن بمومباي. قضينا نصف ساعة في طائرة صارت في قلب العاصفة كطائرة الورق التي كثيرا ما لهونا بها على شاطئ سيدي بشر في الاسكندرية. تصعد بها الرياح إلى أعلى علو وتهبط بها فجأة في هوة سحيقة قبل أن تعود فتصعد بها إلى السماء. الركاب، ومعهم المضيفات والمساعدون، وبينهم نساء وأطفال كبارا وصغارا كلهم يصرخون. وفي إحدى مرات الهبوط في هوة سحيقة استمرت الطائرة تهبط حتى ارتطمت بأرض زراعية قريبة من المطار واشتعلت فيها النيران.

•••

أذكر وبمسحة من الرضا والعفو أحداث خماسين ربيعي، ولكني أذكر أيضا وبكل الهنا والمحبة أياما وليال عديدة صافية ورائعة عشتها خلال هذا الربيع الطويل. تعمدت العودة إلى مواقع في الماضي لأمحو بالرضا ما فعلته أو تسببت فيه خماسين عمري. عدت إلى الهند وزرت بومباي ونزلت طبعا في مطارها. عدت إلى الصين، تجولت خلسة في حديقة ملحقة بقصر الحكومة  خصصت للعاشقين من الشباب، كثيرا ما زرتها مع الزميل والصديق نزار قباني، هناك قضينا معا ساعات نقارن الحب في الصين بالحب في مشرقنا. عدت أيضا إلى روما عاصمة الجمال والحب والحياة الحلوة وزرت موقع مستشفى سانتا روزا فيما كان بضاحية وصار في القلب. جيد جدا أن تعود لزيارة مكان كان مسرحا لمعاناة وشاهدا على ظلم أو قهر من الطبيعة أو من البشر. تعلمت أن العودة تمحو آثارا قاسية على الروح والنفس وتعزز آثارا منعشة، في العودة نكتشف طيبات لم نشبع منها في الزيارة الأولى ونروي ظمأ كان الظن أنه لن يعود.

•••

كتبت السطور الفائتة بالليل وأتيت هذا الصباح لقراءة ما انتهيت إليه في الليل لأضيف أو أحذف. اكتشفت أنني خالفت النية والعزم. لم يكن في النية الكتابة عن ربيع العمر، ولا عزمت أو اشتقت للكتابة عن الماضي بحلوه ومره. لم أبالغ ولا حروفي تجاوزت حين عبرت عن ربيع كان كريما وشابا حتى جاء يوم قررت منفردا أن نفترق، ربيعي وأنا. أتركه وأدلف إلى خريف العمر. أتخلى عنه قبل أن يتخلى عني. عزمت على أن أكون أنا المبادر بالافتراق عن الربيع والاقتراب من الخريف والتسرب في عروقه دون استئذان. لم أهمل أو أتجاهل اعتراضات متوقعة من جانب أطراف في داخلي ليست هامشية أو سطحية مستفيدة وبعضها مستمتع بمزايا العيش المستمر في حضن ربيع العمر.

آن اوان التعبير الصريح والصادق عن خريف العمر، عن طراوته وطيبته وشغفه بالحياة، عن دفئه وصدقه وصراحته.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version