طلال سلمان

«بيت بمنازل كثيرة»… عربياً: مـن يسـتولـد المتصرفيـات؟

لكأن كمال الصليبي كان يستشرف، قبل رحيله بسنوات طويلة، المستقبل الذي ينتظر «المشرق العربي» جميعاً من فشل أنظمة الحكم فيه، والارتداد إلى الكيانات الطوائفية حين أنجز مؤلفه الممتاز «بيت بمنازل كثيرة» الذي روى فيه سيرة «الكيان اللبناني».
فها هي مشاريع «اللبنانات» تتوالد، من حولنا، متخذة من الطوائف والمذاهب والأعراق والعناصر منطلقات للمطالبة بكيانات سياسية تحفظ «التمايز» وحق الاختلاف ـ ديموقراطياً!!ـ إلى حد الاستقلال التام، مع وعود مبهمة بالتعاون «حفظاً للمصالح المشتركة»، تماما كما في العلاقات بين الدول بشعوبها متنافرة الأصول والأجناس والهويات.
وربما كان من حق القوى السياسية التي نشأت على فكرة «الكيان» بديلاً من «الوطن» وحقوق «الأقليات» بديلاً من «دولة كل مواطنيها»، ان تتباهى بكونها قد سبقت إلى التبشير بما يسمى الآن «الربيع العربي» الذي يكاد يتحول إلى خريف عاصف بالغضب والخيبة، مما يودي بالزهر الذي كان الأمل ان يعطي أهل هذه الأرض ثمار جهادهم الطويل من أجل التحرر والمنعة والتقدم.
فالعراق الذي يشهد، بغير احتفال، جلاء قوات الاحتلال الأميركي عن أراضيه، يتوغل في خطر التفتت كدولة في «كيانات» طائفية وعرقية مهددة في الحال والاستقبال بحروب أهلية لا تنتهي، تمولها وتغذيها وتعمل على إدامتها دول جواره القريب، عربية وغير عربية، متكئة في تبريرها على مغامرات الطاغية صدام حسين التي أحرقت بنيرانها الجميع، والعراق بداية وانتهاءً.
كذلك فإن مواجهة النظام في سوريا مع المعارضة التي تزايد اتساعها بقدر ما تعاظمت دموية القمع فيها، قد اطلقت ما كان مكبوتا لدى فئات وقوى وتنظيمات، بعضها قديم وبعضها استولد قيصريا وعلى عجل، فإذا بالشعب الواحد في الدولة الواحدة يجد من يقسمه قوميات وعناصر وفئات مختلفة، عبر استخدام الدين أو الطائفة أو «القومية» بالاستناد إلى العرق!!
…وإذا كانت الدعوة إلى تقسيم الشعب الواحد إلى أعراق أو طوائف ما تزال محدودة الصوت والتأثير في ليبيا العائدة إلى التاريخ بعد تدخل الحلف الأطلسي لإسقاط دكتاتورية القذافي، فإنها في الأردن تتخذ طابعاً عشائرياً وجهوياً، وفي البحرين طابعاً طائفياً. أما في اليمن فيتحدث الجميع عن تشطير لا يقتصر على إعادة فصل الجنوب عن الشمال، بل يتجاوز ذلك إلى تقسيم الجنوب مشيخات أو دوقيات وتقسيم الشمال إمارات لقبائله!
ان ثمة اندفاعاً مباغتاً إلى الخروج على الدولة الواحدة الموحدة التي كثيراً ما صيرها نظام الحكم فيها مملكة العائلة الواحدة أو الرجل الواحد، ومؤكد ان هذا الخروج يحظى برعاية دولية قد لا تختلف كثيراً، في جوهرها وفي قواها الداعمة، عن تلك التي كانت للنظام المراد إسقاطه لإسقاط الدولة جميعاً، والعودة بها إلى متاهة الكيان الذي بمنازل كثيرة.
والتراجع إلى ما قبل الدولة يقتضي اعتماد التزوير التاريخي لهوية الرعايا فيها فإذا هم اقوام متنافرون لم يكن بينهم في أي يوم صلة رحم او توحد في المصير وليس لهم في كيانهم الموحد مصلحة مشتركة.
وإذا ما اعتمدنا النموذج اللبناني وما يجري تداوله في الأندية السياسية وفي القمم الروحية، وصولاً إلى «الشارع» بتعبيراته المختلفة عن تطلعاته لانتبهنا إلى اننا امام مشروع لاستعادة نموذج «المتصرفية» بعد تعميمه في الطبعة الجديدة على الطوائف والمذاهب جميعاً.

…….


هل ترانا امام ست أو سبع متصرفيات كالتي اقيمت قبل مئة وخمسين سنة في جبل لبنان وله، معتمدة تأمين قدر من «الاستقلال» لطائفة بالذات، تاركة الأكثريات الاخرى لمصيرها في الولايات العثمانية في انتظار سقوط السلطنة وقدوم الاحتلال الأوروبي الذي حاول ـ في سوريا تحديداً ـ تعميم نموذج المتصرفية ـ الدولة، بينما عزز المتصرفية الأصلية في جبل لبنان برفدها بالطوائف الاخرى التي لم تكن فيه… بل لعلها كانت ترى فيه مؤامرة على الهوية العربية لهذا «الكيان» الذي ابتدع له تاريخ لم يكن له في أي يوم من ماضيه.
يمكن لأصحاب منطق «منتهى الفصل هو منتهى الوصل» التذرع بالواقع الطوائفي القائم لتبرير الدعوة إلى ان تنتخب كل طائفة نوابها بمعزل عن أو ربما بالتضاد مع الطوائف الاخرى.
يمكنهم القول ان لكل طائفة الآن مناطقها، شوارعها، قياداتها، ايديولوجياتها، عسكرها، واقتصادها الممول (أو الذي يمكن تمويله من الداخل أو من الخارج أو من كليهما معاً).. وبالتالي فلماذا الاستمرار في نفاق التعايش والحديث عن وحدة المصير، فلننفصل تماماً في شؤوننا الذاتية ليمكننا من ثم التلاقي في أفياء الأرزة دائمة الاخضرار.. أما الهوية فأمر آخر يمكن الحديث فيه بعد تأمين الاستقلال الطوائفي الذاتي.
وعلى امتداد دهر الحرب الأهلية استولدت «اللبننة» كتعبير سياسي ملائم عن استيراد حلول خارجية ومن ثم «توطينها» لبنانياً لتلائم الاعتزاز بالكيان الذي تحميه ـ مع عين الله ـ عيون كثيرة.
ها هي «اللبننة» تجد رواجها الأعظم مع «الربيع العربي» الذي يستخدمه الآن الأعظم كيانية من بين قادة التنظيمات والحركات السياسية، الذين يعدون أنفسهم، أو يعدهم الخارج، لان يكونوا في مجالس ادارة المتصرفيات الجديدة التي قد تحمل اسم الطوائف لتقطع كلياً مع الأوطان والدول المؤكدة لوحدة مواطنيها.
…هل من الضروري التذكير بأن مثل هذا المآل للدول العربية، لا سيما في المشرق، يتجاوز بكثير اعظم الاحلام عند قادة الدولة العبرية التي استخدمت العنصرية مع الدين لإقامة إسرائيل كنموذج ناجح لكل من يحاول الهرب من جلده إلى «متصرفية» ستكون محكومة بهذا النموذج الإسرائيلي؟!
مؤكد ان خيال المؤرخ المميز كمال الصليبي لم يشطح به إلى مثل هذا التصور لمستقبل هذه المنطقة التي لم يتيسر لها دائماً ان تقرر مصيرها برغم ثبات هويتها الواحدة.

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 19 كانون الأول 2011

Exit mobile version