طلال سلمان

بوش يتبنى هزيمة أولمرت وتجار السياسة المحلية… ينتصرون!

أما وأن الرئيس الأميركي جورج بوش قد ارتدى البزة العسكرية وقرّر أن يتولى شخصياً قيادة الحرب على لبنان، فذلك يضفي جلالاً إمبراطورياً على المشهد، ولا بد ـ بالتالي ـ من أن نتدبّر أمرنا بسرعة ونعود إلى الملاجئ التي بالكاد خرجنا منها بعد اندحار الحملة العسكرية الإسرائيلية التي امتدت لخمسة أسابيع طويلة من القتل والتدمير والترويع ولا انتصار!

إن هذا الموقف الذي لا يليق برئيس الدولة الأعظم في الكون سيضفي على المقاومة في لبنان هالة أسطورية لم تحققها في مختلف مواجهاتها المظفرة مع “خامس أقوى جيش في العالم” والذي بالكاد أكمل انسحابه المتعجل من جنوب لبنان، أمس، بعدما تولى طيرانه الجبار تدمير دباباته الميركافا المعطوبة في الغندورية ووادي الحجير وعيتا الشعب وبنت جبيل وسهل الخيام وأنحاء أخرى من جبل عامل.

وبرغم الرعونة التي تميّز بها، دائماً، هذا الرئيس الذي يحادث الله فإن تصديه لإطلاق هذه التهديدات يعظِّم من شأن “حزب الله” ونصره العسكري (والسياسي) الذي حققه في مواجهة الحرب الإسرائيلية، ويضيف إلى مكانته ويضفي شرعية على دوره كقدوة وكنموذج لمن يقاتل من أجل التحرر والسيادة، وهو الدور الذي تجاوز بإشعاعه لبنان إلى مختلف الأقطار العربية والديار الإسلامية، مسقطاً حواجز المذهبيات وترسبات دهور الفتنة الطويلة التي كادت تصير “تاريخاً” لهذه الأمة.

لكن هذه التهديدات لن تبدل في المشهد الإسرائيلي بل هي ستؤكد الاستنتاجات التي استخلصها الإسرائيليون قبل اللبنانيين (وسائر العرب) وهي أن الحرب التي شُنت على لبنان كانت “أميركية” بأهدافها المتقدمة على الأغراض الإسرائيلية، وأن عدم النجاح فيها شكّل ضربة عنيفة للاستراتيجية الأميركية التي تزداد غموضاً (وفشلاً) بقدر ما يتزايد التأكيد على مشروعها “الشرق الأوسط الجديد”..

وإذا كان السيد حسن نصر الله قد ازدهى بالمشهد المهيب الذي رسمته العودة المتعجلة لعشرات الآلاف من الذين اضطرتهم نيران الحرب الإسرائيلية إلى النزوح من مدنهم وقراهم والضاحية الجنوبية وبعض جهات البقاع والنزول “ضيوفاً” على أهلهم في المناطق التي لم يطلها القصف التدميري المنهجي خلال الحرب الإسرائيلية، فإن من حقه أن يرتاح طالما أن الرئيس الأميركي يرى في النتيجة انتصاراً باهراً لحكومة إيهود أولمرت الذي يترنح الآن وسط حملات جيشه الممرور بهزيمته والمعارضة التي تجمع في صفوفها بعض وزرائه “الكبار”…

على أن بين طرائف هذه الحقبة التي تداخلت فيها مشاعر الزهو الوطني ووجع الخسارة في الإنسان والعمران، اختلاط الحسابات المحلية التافهة والضيقة مع استراتيجيات الدولة العظمى، بحيث بات بعض محترفي السياسة في لبنان يستعيرون من أولمرت “انتصاره” ليحاسبوا به المقاومة على “هزيمتها”… هذا قبل أن يسمعوا الرئيس الأميركي فكيف بهم بعد أن سمعوه وشاهدوا ملامح وجهه العاكسة للذكاء الباهر وهو يطلق تهديداته مؤكداً أن إسرائيل التي تلملم جراحها المعنوية والمادية، في الجيش وفي الاقتصاد وفي المدن والمستعمرات فضلاً عن سمعتها المدوية، قد انتصرت، وأن “حزب الله” قد انتهى؟!

وليس أغبى من خطاب أولمرت أمام الكنيست الإسرائيلي إلا تصريحات بعض الصغار من محترفي السياسة المحلية، التي تركزت على عرض واحد لا تستطيع المقاومة أن ترفضه وهو أن تتفضل مشكورة بالانصراف بعد أن تسلم سلاحها حتى آخر صاروخ وآخر طلقة رشاش!

والغباء في لحظة مواجهة المخاطر المصيرية قد ينزلق إلى حافة الانحراف الوطني.

ومسألة في خطورة “سلاح المقاومة”، وفي ظرف دقيق كالذي نعيشه، لا يجوز أن تترك لمحترفي السياسة المحلية الذين يرون في كل الأمور تجارة، الشطارة فيها أن تنحاز إلى الأقوى فتضمن ربحك… وبديهي عندها أن إسرائيل أقوى من المقاومة وأن أميركا هي الأقوى بالمطلق، ولولا شيء من التهيّب لأضفوا عليها بعض صفات العزة الإلهية.

إن “حزب الله” الذي كان قوياً بالأمس، وقبل المواجهة المظفرة مع القوات الإسرائيلية التي جاءت إلى لبنان غازية ومحتلة، قد تعاظم قوة وخطورة واحتراماً في عيون العالم (وقداسة في عيون العرب) خلال هذه الحرب التي خسرتها إسرائيل، ثم إنه كاد يتحوّل ـ مع انتهائها بفوزه ـ من قدوة إلى قيادة في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

لهذا كله، ولأسباب مفهومة ولا داعي لذكرها هنا، فإن معالجة سلاح المقاومة، التي طُرحت في التوقيت الغلط وبالأسلوب الغلط وفي المكان الغلط، يجب أن تُسحب تماماً من التداول، وأن تتم معالجتها بمسؤولية وطنية، وبعيداً عن المزايدات والمناقصات وحفلات الزجل التي قد تنفع في الفولكلور السياسي اللبناني، ولكنها تؤذي القضايا والمشاعر الوطنية…

.. كما أنها لا ترضي لا القيادة الأميركية العليا ولا حليفها الإسرائيلي الذي كانت له الصدارة، وها هو يكاد يفقدها.

إن أسرار الدولة ليست للتفكهة ولا هي للبيع والشراء.

وحدهم من يستحقون دولة، ومن يحرصون على كرامتها وهيبتها وحاضرها ومستقبلها، مؤهلون لأن يتحمّلوا مثل هذه المسؤولية ولأن يؤدوها باعتبارها واجباً وطنياً وليس باعتبارها فرصة لتحسين المكانة في العين الأميركية ولو على حساب الوطن بدولته ومواطنيه ومقاومته التي حققت لهذه الدولة الصغيرة كرامة تفوق كرامات الدول الكبرى، عربية وأجنبية وبين بين.

نشرت في “السفير” 15 آب 2006

Exit mobile version