ما أبعد الشقة بين »النداء الموجّه إلى مَن يعنيهم الأمر« الذي أصدره »مجلس المطارنة الموارنة« في 20 أيلول 2000، وبين بيانهم الجديد الذي أصدروه أمس، في الثاني من أيار 2001، حتى ليصعب التصديق أنهما صادران عن المرجعية نفسها…
ومن الصعب الافتراض أن اللقاء السياسي الذي انعقد في قرنة شهوان ثم تكلم من بكركي موحياً أنه إنما ينطق بلسانها، يصلح وحده لردم الفجوة بين بياني مجلس المطارنة، أو لتفسير التحول الذي أملى تبديل اللغة… فحذاقة السياسيين وبراعة الكتاب والمفكرين في تدبيج المواقف حمّالة الأوجه والتي يقرأ فيها كل طرف ما يرضيه، واللجوء إلى احتياطي »الشطارة« اللبنانية ذائعة الصيت، كل ذلك يظل عاجزا عن إعادة »الصفاء« إلى الجو، وطمأنة من أخافتهم نبرة »النداء« الشهير، والتي تسببت في تغذية المنحى التقسيمي وفي إظهاره وكأنه أعمق جذورا مما كانوا يتصورون.
لا يستقيم اللوم مع الاحترام البديهي للمرجعيات خصوصا ولحق القوى والأطراف عموما في أن تعبر عن رأيها بحرية كاملة، ولكن التساؤل يظل مشروعا عن أسباب التبدل في صيغة طرح الإشكالات والمشكلات التي أثارها »النداء« وأعاد صياغتها لقاء قرنة شهوان ثم تبناها مجلس المطارنة… فلم يطرأ في الظاهر أقله ما يبرر مثل هذا التحول الدراماتيكي في المواقف والانتقال بها من حيث كانت عرضة للنقد الحاد، إن لم نقل للرفض المطلق، إلى خانة المنطق المقبول مبدئيا كأرض للحوار الداخلي حول مسائل خلافية، لبعضها جذور تاريخية عميقة، ولمجملها التباسات يتدخل فيها القومي بالكياني والطائفي بالسياسي والمبدئي بالمصلحي، والكل بأساس النظام السياسي ومصدر السلطة ومواقع مراجعها وقاعدة المحاصصة فيها.
لقد شكل »نداء« 20 أيلول مفاجأة غير سارة للبنانيين المثقلين بهمومهم المتعددة المصادر، وأخطرها ما هو نابع من الأزمة الاقتصادية بانعكاساتها الاجتماعية، الحادة، إذ أشعرتهم بأنهم مرة أخرى على شفا تجدد أو تجديد الحرب الأهلية، وقرأوا فيه نبرة »البلاغ الرقم واحد« والتلويح بالخروج على الدولة والنظام…
أما البيان الجديد الذي أحال الجميع إلى ما قالته بكركي بلسان لقاء ذلك الرهط من السياسيين المسيحيين المتبايني المواقف والمصالح في قرنة شهوان، فقد هدّأ من روع الناس، وسحب لغة الحرب من التداول ليطرح التعبير الأكثر جاذبية عند اللبنانيين: »الصفقة«، أو ما يرغب آخرون في تفخيمه بتسميته »التسوية التاريخية« بين الطوائف، أو بتعبير عامي: إعادة صياغة التوازنات والمواقع في السلطة، بين المسلمين والمسيحيين، من دون السوريين، وفي غيابهم، حتى لا يقال »ومن وراء ظهرهم«.
وليس واضحا إذا ما كانت بكركي، التي تبدت على امتداد الشهور الماضية، في موقع القيادة السياسية للشارع المسيحي، هي التي طلبت فاستجاب أهل السياسة وأعادوا صياغة ما صدر عنها ليتخذ شكل الدعوة إلى »تجديد التسوية« مع المسلمين، أم أن السياسيين أفادوا من وصول المنحى الذي قالت به بكركي في 20 أيلول إلى طريق مسدود فتدخلوا لإيجاد المخرج واستعادة زمام المبادرة مع إقناع بكركي بأن تكون سندا في الخلف بدل أن تكون المتراس الأمامي الذي قد يستغله المتطرفون وقد يتخذ منه المغامرون أو الانتحاريون منطلقا لتوريطها في ما لا ترغب فيه ولا مصلحة للمسيحيين فيه على الإطلاق.
على أن البراعة في الصياغة، والحذاقة في تقديم بعض عناصر التطمين (للمسلمين) كمثل تثبيت صفة »العدو« على إسرائيل، والإقرار بمشروعية المقاومة وفضلها في التحرير، والتضامن مع الفلسطينيين، والمناداة بضرورة مساندة سوريا لتحرير جولانها المحتل، تجيء جميعها كمقدمات للمطلب الأصلي وهو »جدولة« الوجود السوري في لبنان بتحديد موعد نهائي لخروجه…
ومع أن العديد من الأطراف السياسية قد انتبه إلى اللهجة الهادئة، نسبيا، التي صيغ بها بيان قرنة شهوان، إلا أنه لم يستطع أن يقبلها كقاعدة للحوار لأسباب مبدئية أبرزها أنه يراها دعوة للتحاور خارج المؤسسات الشرعية وربما على حسابها،
أما موضوع »المصالحة الوطنية« فلا يلقى الكثير من الأنصار بل إن كل »الآخرين« يرون فيه ما يشبه »الاستفزاز«… وحتى من لم يُعرف عنه التطرف في أي منحى، كمثل الرئيس سليم الحص ومعه »ندوة العمل الوطني«، فقد رأى في »أي إجراء قد يتخذ خارج إطار الدستور أو القانون أو المؤسسات، بما فيها القضاء (والإشارة هنا واضحة إلى سمير جعجع والعماد عون) لا يمت إلى المصالحة الوطنية بصلة«.
ثم إن مصادفة الربط بين تبني بكركي لما أصدره سياسيو قرنة شهوان وبين إعلان البطريرك الماروني الكاردينال صفير أنه لن يستطيع مرافقة البابا في زيارته لدمشق بسبب »الطابع السياسي الذي ارتدته، بالنسبة إلى الرأي العام اللبناني فجعل منها قضية أخرجتها عن واقعها الرعوي«… إن هذا الربط قد ألزم الجميع بإعادة قراءة ما صدر عن لقاء قرنة شهوان، مرة ثانية، ليستنتج منها ما يخالف ظاهرها.
مَن تسبَّب في مثل هذا الربط ومَن هو المسؤول عنه؟!
وليس سراً أن بعض من توهم أن الاعتدال في بيان قرنة شهوان إنما كان يمهد ويفتح الباب لمرافقة البطريرك البابا في زيارته دمشق، قد شعر وكأن النص المعتدل قد خدعه عندما سمع البيان الجديد لمجلس المطارنة بالتبرير السياسي للامتناع عن الزيارة ذات الواقع الرعوي.
والسؤال البديهي هنا: مَن تسبب في مثل هذا الربط، ومن هو المسؤول عنه؟ ولماذا يحمل اللبنانيون والمسيحيون بشكل خاص نتائجه؟!
فالاعتدال مع من في بيروت مقابل التشدد مع دمشق ليس هو الطريق إلى الصفقة أو التسوية التاريخية.
والإصرار على جعل بكركي نداً لدمشق، والقفز فوق مَن في بيروت ليس خطوة في الاتجاه الصحيح، ويفترض أن البطريرك صفير، صاحب الخبرة الطويلة في العمل العام، يعرفها أكثر من بعض ناصحيه وكل محرضيه من أصحاب الأغراض.
ومن الواجب مصارحة البطريرك صفير بأن كثيرا من اللبنانيين رأوا في اعتذاره عن عدم الذهاب إلى دمشق، حتى في مناسبة جليلة مثل زيارة البابا، تصعيدا خطيرا قد يقفل أبواب »التسوية« ولا يفتحها، ويكشف بيان قرنة شهوان ويُحرج معظم موقعيه إن لم يكن جميعهم، إذ يصورهم وكأنهم ذاهبون إلى حرب لا يرغب فيها أحد ولا يقدر عليها أحد.
ماذا بعد؟!
ذلك هو السؤال الذي يجب أن يشغل بال بكركي وقرنة شهوان،
كانت فرصة لائقة فضاعت، أو ضُيّعت، أم إن الأمور وصلت إلى حد لا تجوز معه التسويات والتنازلات والحلول الوسط، فلم يتبق غير »الاعتصام« بالرفض، ولو أدى ذلك إلى شيء من العزلة أو الانعزال؟!
وهل أن مرارات الرحلة الأميركية والخذلان الدولي وعدم تجاوب »اللبنانيين الآخرين« قد أدت إلى تأكيد »الموقف« ولو بكلفة عالية جدا، استجابة لمن يروج لحكاية »النزعة الانتحارية عند الموارنة«، وهي دعوة لا مبرر لها ولا موجب لإطلاقها فضلاً عن عدم دقتها تاريخيا، والأهم أنها ليست دعوة وحدوية على الإطلاق، بل هي تجسد ذروة المنحى التقسيمي: هل الانتحار أفضل من العيش المشترك؟!
على أنه من الضروري التنويه بعودة بكركي ومن معها إلى مخاطبة الدولة والحكم، ولو من باب اللوم والتنديد بالتقصير، والتوجه إليها بدلا من التلويح بالطعن في شرعية مؤسساتها أو تجاوزها بمخاطبة »من يعنيهم الأمر«، والتلويح بالخروج عليها.
كذلك فمن الضروري رفع صوت الاعتراض المبدئي على اللون الطائفي الواحد لتجمع قرنة شهوان، أو أي تجمع مماثل… فلا يحتاج لبنان إلى »حلف ثلاثي« جديد، وليس مثل هذا التوجه هو الطريق إلى السلم الأهلي، ولا هو بالتأكيد المخرج من الأزمة الاقتصادية الخانقة.