ليس انتقاصاً من خطورة الدور الذي يلعبه البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله بطرس صفير أن يُظهر اللبنانيون، عموماً، كثيراً من الإشفاق عليه والتعاطف معه وهو يحاول إنجاز المهمة المستحيلة التي أُلقيت على عاتق بكركي، وهي: إيصال الموارنة بتلاوينهم السياسية المختلفة إلى التوافق على شخص الرئيس الجديد للجمهورية التي يبدو أحياناً وكأنها شاخت قبل الأوان، أو أن نظامها قد ضاق عليها أو ضاقت به فصارت إعادة النظر فيه ضرورية.
وهي مهمة مستحيلة لأن البطريرك الذي يعرف كثيراً، عن الدول والسياسات، وعن مهنة صناعة الرؤساء في دول العالم الثالث عموماً ولبنان خصوصاً، يدرك أن التشريف بهذا التكليف إنما هو مؤقت، وليس عملياً بما يكفي لكي يكون جدياً، ثم إنه مخادعة من طرف المرشحين الذين ينتظر كل منهم أن يعرف حظه من كلمة السر الموعودة التي سوف تجيء من الخارج وليس من بكركي، على أهمية دورها في التزكية وليس في الاختيار.
صناعة الرؤساء، في حسابات الدول ذات القرار، أخطر من أن تُترك لرجال الدين، وإن ظل مطلوباً منهم مباركة القرار، وبالتالي تزكية المرشح المختار وتوشيحه بالبركات والأدعية التي تضمن له قبولاً حسناً عند الرعية المؤمنة…
وواضح أن الدول لم تصل بعد إلى قرار، سواء أكان بالمساومة الموصلة إلى تفاهم، أو بالمواجهة التي تلغي بعض الأطراف ممن كانوا يعتبرون أنفسهم شركاء ولو من موقع الضد… أو المختلف.
ربما لهذا تأتي النجدة الكاثوليكية ممثلة بوزراء ثلاث من أكبر دول أوروبا وأوثقها صلة بلبنان، الإمارة ثم المتصرفية، ثم الدولة التي زيدت مساحتها وأضيف إلى شعبها من كان خارجها، فما إن استقر وجودها حتى صارت الأزمة سمة ثابتة من سمات نظامها الذي ابتدع في لحظة تحوّل دولية، قبيل نهاية الحرب الثانية، فإذا هي جمهورية ذات نظام برلماني ديموقراطي طوائفي توافقي بين أهلها بداية، ومن خلفهم العرب و الدول البعيدة التي ابتدعت الكيان وضمنته…
واقع الأمر أن الأزمة تتجاوز الطائفة المارونية التي تعجز نخبها عن التوافق على رئيس … ففي هذا البلد الفريد في صيغته تعيش كل طائفة من طوائفه أزمتها مع نظامه… ربما لأن التوافق الذي يُعتمد في لحظة سياسية معينة يهتز مع اختلاف الظروف وتوازنات القوى عربية ودولية ويصبح ضرورياً إعادة تركيزه أو ربما إعادة صياغته مع ما يتناسب والتطورات التي قد تقرّب البعيد أو تُبعد القريب.
بل إن كل طائفة تعيش أزمتها الخاصة، من يتزايد عديدها أو من يتناقص، فإن عجز النظام عن استيعاب التحوّلات الداخلية فهو لن يتحمّل بالتأكيد الضغوطات الخارجية التي تحمي توازناته الدقيقة، والتي تتمثل أكثر ما تتمثل في القمة.
والأزمة الراهنة هي، بالتالي، أكبر من أن يستطيع حلها شخص أو مجموعة من الأشخاص في الداخل، إذ تتقاطع فيها كل التطورات والتحولات التي تشهدها المنطقة في ظل حروب معلنة أو صامتة تفجرت مع الاحتلال الأميركي للعراق، وهو حدث مدمر لتوازنات هشة أقيمت في غيبة أهل المنطقة، فإذا أضفنا إليه المحاولات التي تكاد تلغي فلسطين التاريخ والجغرافيا تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم معلن ومفتوح من الإدارة الاميركية تنكشف أبعاد أخرى للأزمة الداخلية هي أخطر بكثير من أن تتلخص في اختيار شخص سعيد الحظ ليكون رئيساً لهذه الجمهورية التي يحميها التوازن ويخلخلها افتقاد التوازن من حولها وليس في داخلها فحسب.
وإعادة صياغة التوازنات مهمة أخطر من أن ينجزها رجل فرد، حتى لو كان بطريركاً جزيل الاحترام، عميق التجربة وواسع الثقافة والمعرفة كالكاردينال صفير.