طلال سلمان

بحرين تجربة جديدة في قلب خطر

ذهبنا إلى البحرين لمهرجان ثقافي قوامه الشعر فإذا »المناخ« يفرض علينا البقاء في »مربع الرعب« الذي تفرضه الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة، معززة بذلك الجهد الحربي الإسرائيلي الذي يستهدف فلسطين شعبا وقضية بالتدمير اليومي المنهجي.
وقبل أن تحط بنا الطائرة في مطار الدوحة كان »الفضوليون« من الركاب يبحثون بعيونهم عن »قاعدة العديد« الأميركية التي ذكرت الأنباء أنها ستكون منطلق الطائرات التي ستتولى مهمة المباشرة في تدمير العراق… أما حين بلغنا، بعد دقائق، البر البحريني فقد طفق »الفضوليون« أنفسهم يبحثون بعيونهم عن مقر قيادة الأسطول الأميركي الخامس أو ربما السادس أو ربما الاثنين معاً، التي ستتولى إدارة العمليات الحربية.
… ولم يكن ممكناً »استكشاف« مواقع القواعد الأميركية، قبل ذلك، في البر السعودي الواسع، بسبب الارتفاع الشاهق، برغم أن الطيار قد أبلغنا ذات لحظة أننا نجتاز منطقة »حفر الباطن« التي تحفظ الذاكرة عنها ما لا يبهج من وقائع »حرب الصحراء« التي اتخذت شعارا لها »تحرير الكويت« وإن كان سياقها العام، ضمن مناخ انقسام عربي حاد إزاء »غزوة صدام حسين« قد أدى بأفضالها!! الى عودة الاحتلال الأجنبي عسكرياً الى التمركز بقواعده الكبرى فوق الأرض العربية، فضلاً عن »أفضالها« أيضا بتدمير العراق والتضامن العربي ولو بحده الأدنى، بغير أن تعود الكويت »كويتنا التي كانت«.
* * *
في المنامة وسائر أنحاء هذه الجزيرة ذات التاريخ الحافل بالاعتراض والخروج على السلطة، مظاهر العيد: صور للشيخ الذي كان أميرا للبلاد فصيّرها مملكة وصار ملكاً، وصور لولي عهده الشاب ولعمه القوي رئيس الحكومة منذ ثلاثين عاماً أو يزيد، ثم مئات الصور لمرشحين للانتخابات واللافتات واللوحات الإعلانية الضخمة المحرضة على »المشاركة« باعتبارها واجباً وطنياً فضلاً عن كونها حقاً لكل مواطن، والأهم: لكل مواطنة، وهذا تطور بارز بل استثنائي في مجمل الجزيرة العربية التي تأخرت يقظتها، وتأخر لحاقها بالركب الديموقراطي، ومن ثم بالاعتراف بالمرأة كمواطنة لها ما لزوجها أو أبيها أو أخيها من حقوق وعليها مثل ما على أي منهم من واجبات.
الحدث الانتخابي نقطة تحول بارزة في سياق التجربة السياسية في هذه الإمارة الخليجية الصغيرة التي سبقت محيطها الى نور العلم والى أفياء النضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني، واستطراداً الى وعي شعبها لحقه في المشاركة في السلطة من داخل تسليمه بنظامه الخاص الذي يجعل »الأمير« رأس السلطة والحكم وراثياً في عائلته الحاكمة.
على هذا فالبحرين تستأنف حياتها السياسية التي تم تعطيلها لأسباب متعددة، طيلة ربع قرن أو يزيد قليلاً، أي منذ انطفاء تجربتها السابقة مع الدستور والديموقراطية ووعد المشاركة الشعبية في السلطة.
والجزيرة اليوم فوارة بحيوية سياسية ملحوظة، وإن كان يشوبها شيء من »الانقسام« الذي لا يمكن النظر إليه وكأنه مظهر طبيعي من مظاهر الممارسة الديموقراطية، لأنه في بعض جوانبه محكوم بعقدة الماضي، لدى الحكم كما لدى معارضيه، وفي جوانب أخرى مرتهن لتطورات الأيام المقبلة ومقدماتها توحي بكوارث قومية قد تهز كيانات سياسية راسخة فكيف بالكيانات الصغيرة ذات الموارد المحدودة، والعاجزة قطعاً وبغض النظر عن النوايا، عن الاعتراض على ما يخطط ويدبر في عاصمة القرار البعيدة لكن سيف سلطنتها طويل وبتار يطال كل من تسوّل له نفسه الاعتراض فكيف بالمواجهة؟!
في الدواوين والمكاتب ومقار »الجمعيات« التي تحولت بقوة الأمر الواقع الى أحزاب، أو أنها اكتسبت شرعياً الى حد كبير صفة الأحزاب السياسية، يدور نقاش مفتوح ولا يخلو من الاحتدام، حول المشاركة أو مقاطعة الانتخابات، تعبيراً عن رفض ما يسميه »المعارضون« اعتداء على الدستور وتفريغاً لتجربة المجلس النيابي من أبسط شروط »حياتها«، حتى من قبل أن تتم فصولاً… ذلك ان الميثاق الوطني الذي أقر باستفتاء شعبي ونال أكثرية ساحقة قاربت المئة في المئة، قد نصّ على مجلسين أحدهما منتخب (البرلمان) والثاني مساو في العدد (40 عضواً) يعيّنهم الملك.
ويقول المعارضون إن الدستور الجديد جاء مغايراً في بعض نصوصه لما توافق عليه المعارضون مع الملك ومستشاريه، (علماً أن أكثرية هؤلاء المعارضين، ولا سيما البارزين منهم، قد عادوا مؤخراً من المنافي، وأن العديد منهم قد أمضى في السجون ما يزيد على خمس سنوات، هذا عدا عمّن أعدم أو مات منفياً).
ولأن وضع البحرين، في تركيبتها السكانية، كما في تاريخ تجربتها السياسية (السابقة) شديدة الحساسية، فإن الشعارات والمطالب ذات الظاهر السياسي قد تعبر ضمنا عن واقع الانقسام الطائفي، وهو قديم الجذور ومعقد جدا نتيجة الترسبات والإهمال والتجاهل المتعمد، ثم نتيجة »زلازل« هزت المنطقة وأبرزها الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 واعتمادها الفقه الجعفري أساساً دستورياً لسلطتها.
واذا كان من الخطأ تلخيص موقف الانقسام بأن »السنّة« سيشاركون بأكثريتهم الساحقة في الانتخابات، ترشيحاً واقتراعاً، وبأن »الشيعة« بأكثريتهم الساحقة سيقاطعونها، ترشيحاً وانتخاباً، فمن الخطأ أيضاً التعامي عن هذه المشكلة وتجاهل مضاعفاتها المحتملة على مسار التجربة الديموقراطية
(تتمة المنشور ص1)

الجديدة التي تشكل ركيزة أساسية للتأييد الشعبي الذي ناله »الأمير« الذي صار ملكاً، وهو يقدم الى مواطنيه برنامجه الجديد للحكم، والذي أراده تجاوزاً علنياً للتجربة السياسية المغدورة، وفتح صفحة جديدة لعلاقات صحية بينه وبين شعبه ذي التاريخ الغني بالدروس والمرارات والحذر المتبادل مع السلطة.
ربما لهذا كله كان علينا (نحن اللبنانيين!!) ان نتخذ دور »الوعاظ«، وهو دور غير مستحب عموماً، ونحن نناقش »المناضلين البحرينيين« العائدين الى الحياة السياسية من المنافي والسجون، في خطورة النتائج التي قد تترتب على »المقاطعة«، وفي ضرورة الالتفات الى الظروف المحيطة بهذه الجزيرة، بل بمجمل المنطقة العربية، التي فقدت زمام مصيرها والتي تتقوقع على ذاتها في انتظار »الضربة التي لا بد آتية« والتي قد تفتح أبواب جهنم على مصاريعها وتضع مصائر دول وشعوب عديدة في مهب الريح.
* * *
في طريق العودة كان علينا ان نهبط، بعد 18 دقيقة طيران فقط، في مطار الدوحة مرة أخرى.
وكان طبيعياً ان يثور تساؤل ساذج من نوع: كيف اتسعت هذه »المسافة المساحة« لحرب ضروس بين الدولتين الشقيقتين اللتين لا يصل مجموع سكانهما الأصليين الى مليون نسمة.
ومع التساؤل الساذج سؤال جدي: أي ديموقراطية تقوم اذا كانت الأوطان محتلة واذا كان المهيمن الأجنبي هو صاحب القرار، وهو صاحب القواعد العسكرية اللاغية لمعنى »الاستقلال«، فضلا عن إرادة الشعب وسلطته الوطنية؟
مع ذلك فإن التجربة اللبنانية الغنية بدروسها الدموية قد تنفع في ترشيد البحرين، شعباً وسلطة، فلا يكررون هناك ما نكافح بعد للخلاص من آثاره المأساوية هنا، وهي آثار تجعل الديموقراطية شقشقة لسان، وتبقي اللبنانيين بكل ثقافتهم ووعيهم وتجربتهم السياسية الغنية على شفا حرب أهلية.
وعسى اخواننا في البحرين يتعظون بالماضي وهم يحاولون التعرف الى طريق المستقبل، وسط الظلام الاميركي الاسرائيلي الدامس.

Exit mobile version