“سأخون وطني”. كان ذلك نصاً نبوئياً. بلاد تعيش في هذيان الرعب. أما الحرية فهي مضادة للاضطهاد، يتساءل “المواطن” (وهي تسمية مبهبطة) لماذا لم يتم الاعتراف بي كإنسان عادي جداً. مجرد إنسان فقط.
شعاري في أوطاني العربية: “أريد أن أعيش”. المشاهد الواقعية مؤلمة. لا أعترف بالصباح أبداً. أفيق خائفاً. علماً أنني لم أرتكب خطأ ما. أولاً؛ لأنني “آدمي”. ثانياً؛ لأنني جبان. لا أصدق حتى مع نفسي. لقمة العيش هدفنا. الرغيف تشتاق إليها شفاهنا.
كنت أظن أن هذه “العيشة” هي عقوبة ناتجة عن “فعلة” ما ارتكبتها ذات زمن أو في ظل سلطة الجزمة أو البندقية أو التسوّل. لست جاهلاً. كثيرون قبلي أقبلوا على العلم والمعرفة والكتابة وهربوا من الجهل والتبعية والتوحش السياسي. وفوجئت أنني برغم علومي وعلوم أصدقائي الوافرة جداً، ما زلت أبحث عن فسحة كرامة. غريب! من أين هذا التوحش السياسي؟ تخمة قلّة سائدة. جماهير مستعبدة لم تُتح لها فرصة التحرر. الخريطة العربية تنتهك الإنسان. التوحش من سمات السياسات الاستعبادية. وفي هذه الأحوال: أنتَ لست أنتَ. أنتَ كل عار، إلا أنتَ.
من عادات الأزمنة، أنه كلما تقدمنا زمنياً، خرجنا من الهمجية وصرنا بشراً.
كذبٌ. كذبٌ. كذبٌ. لا حرية البتة، من المحيط إلى الخليج، باستثناء عدوين جديين. لبنان و”إسرائيل”. شعوب مُداسة.
بلا حرية للإنسان لا تحرير للأرض.. ولا استعادة حق.
من دون حرية، تصير البلاد سجوناً.
تقييد الحرية لا يُشبع جائعاً. لا يُنصف مظلوماً. لا يُعاقب ظالماً. لن تساوي فسحة الأزرق السماوي إلا آهة موجعة ودمعة سرية.
السلطات العربية اختارت عدوّها من زمان: الحرية خطر عليها. والمواطن يمتلك إرادة وقبضة وجرأة النضال.
البلاد “العربية” راهناً تُفاجئ “المواطنين” بابتكارات انقلابية. أول ما يتعرف عليه “المواطن” في فيافي التواجد العربي، هو الكراهية والحقد. إذ، لا يعقل أن يعاقب المرء وهو لم يرتكب، أو لأنه تفوه بكلام منطقي مدروس. السلطة تكره المعارف وتحب المصارف. ومطلوب دائماً، من الشعب المقموع، أن ينشد مديحاً وإلا.
تعمل السلطات العربية، “المالكة” و”الأميرية” و”السلطانية” و”العقائدية”، و”العسكرية”، على إشعار الناس بالخوف دائماً. الخوف منجاة. الكلام المبهم خطير. المطلوب دائماً من الإنسان العربي أن يكون خادماً. وكلما انتمى، حصل على عوائد مالية وفرص نجاح. الإرادة ممنوعة. الشكوى خطيرة. استعمال لغة أجنبية يُثير حشرية ضبط المتكلم. أما الأجهزة والنقابات، فهي تشبه سجوناً في الهواء الطلق.
لنقم بزيارة، من دون تعليق، من المحيط إلى الخليج، بحثاً عن الحرية. قد نجدها أو ربما أخفوها. نبدأ من باب المندب: اليمن.. أولاً، صار يمنين. وكل يمني يكيل لأخيه التهم ويُشعل الحروب. الحرية! ما هذه الكلمة إنها خطيرة جداً. عند قابوس، لا تسأل. كل واشرب ونم واخرس. الإمارات: إياك ثم إياك أن لا تتشبه بهم، ليس كأمراء، بل نمطيين، مقابل رواتب وشركات. السعودية: إياك أن تكون أنت. كن كل شيء إلا أن تكون أنت. ارفع جبهتك وامسحها، ثم تنازل عنها، كي تصبح مطيعة.
ماذا؟ العراق. يا حرام. لم نذق بعد طعم الحرية. “الجرح ينطق يا فم”. المعرفة حلال، بشرط أن تكون صامتة. إياك أن تتفاءل. الجماهير انتحرت ونُحرت. تطيفت وتطاحنت. تحاشى أن يكون لك رأي مخالف، للتشيع.. أو للتسنن. لأن العراق راهناً، عراقين، واحد للغرب وآخر للا أحد. ربما قليلاً لإيران.
سوريا: وداعاً. المجهول قد يرث القبور التي شكلت دعائم الإرهاب بكل فئاته. سوريا ليست سجناً. إنها إعدام للحياة. لا حقوق ولا من يحزنون..
راهناً، حضر الجولاني، العتمة قريباً. كم أن السلطة الطائفية والدينية ظالمة وقاتلة.. فليحيا الصمت.
ثم نصل إلى لبنان. إنه أفضل دولة في العالم العربي. ولا أبالغ أبداً. ليس لبنان نموذجاً، ولكنه لا يشبه أي دولة من المحيط إلى الخليج. نعود إلى لبنان، بعد إكمال مسارنا إلى الأردن المتذاكي والمحتاج إلى دعم خارجي، وقد يكون إسرائيلياً. لأن شعبه اثنان أو ثلاثة: الأمن عنده يُكمّل واجباته. البرلمان مقيد بأوامر ملكية. النقد مسموح بالغرامات. لا محاكمة لفساد أو فاسد. ذلك أن الفساد في العالم العربي، هو العقيدة السياسية بلا منازع.
“شعوب آل”.. شعوب من أين؟ نحن مربوطون برسن الأمن الارتكابي.
مصر: يا حرام. لم يتبق من شموخها وعروبتها إلا الأهرام. ازدادت ديونها إلى درجة التحضير لمجاعات شعبها. الحرية إياك، لا تصدق وإلا اكذب.. اكذب.. إلى آخر السطر والعمر.
السودان: دم يستسقي دماً. الحرية مداسة. أحياناً يتساءلون: ما هذه البدعة؟ بل ربما يتساءلون ما هذه الآفة.. أسوأ الحكام هم القادمون من الثكنات العسكرية. وأسوأ القضاة هم القادمون بالرشى.
ليبيا: عليها الرحمة. لا حنين إلى القذافي، ولا أفق إلا المنافي وقبضات الغرب. تونس: خرجت من هذا السباق. امتحانها صعب، علها تصيب كي لا تُصاب. أما الجزائر، فهي لا تشبه تاريخها أبداً. إنها تكتب تاريخاً مضاداً للشعب، لثورة المليون شهيد، الفساد أولاً وآخراً وبين بين. المغرب: هي الدولة الشقيقة الوفية لإسرائيل.
هل يحق للإنسان الإنساني أن يشطب هذه الأمة ودولها، ويستثني منها: لبنان المفلس والطائفي والمهذب. لبنان ما يزال يصون الحرية. تستثنى تونس فقط من اللائحة..
“إسرائيل” الوحيدة دولة لشعبها.
ليس لهذا تنتصر “إسرائيل” على العرب، كل العرب، مراراً.
“إسرائيل” دولة كاملة الأوصاف. باستثناء أنها أقامت على أرض تدعي أنها موعودة بها إلهياً. ولبنان كذلك دولة، لكنها مصابة بتشوهات تشل حياتها السياسية والمؤسساتية.. الطائفية المحروسة والمصانة عطّلت قيام لبنان حضاري، ثقافي، إنتاجي. إلى آخره.
“إسرائيل”، يا أهل الفكر، انتصرت في كل حروبها على كل من اشترك في حرب ضدها. إنها دولة الشتات التي تجمع بناء على “عقد بين إله وشعب يهوه”. طافوا في العالم. أقاموا أفضل إقامة في الحضن العربي تاريخياً. لا أتذكر أحداثاً وصراعات وتنكيلات، بين المسلمين والنصارى واليهود.. هم اشتركوا في صناعة وانتشار حضارة زاخرة بالعلم والشعر والفلسفة والسياسة والعسكر.
اليهود كانوا ضحية الغرب المتشاوف والعنصري. عامل اليهود كسرّاقين ونهّابين. نهبهم. شرّدهم. عذّبهم. طردهم. فيما كانوا أيام السلطنة، برتبة مستشارين. “اليهودي المطارد والملعون” بحاجة إلى “وطن”. فلسطين هي الأقرب إليه. فنالها من غرب، يحلم بأن تكون لقدميه أرض ما.
يقال: لقد صنع الغرب “إسرائيل”، غلط. الصهيونية ابتكرت وناضلت وارتكبت و.. حتى باتت دولة، مرجعيتها شعبها. وعد بلفور، لم يكن كافياً. كان لا بد من هاغاناه، من سلاح. من مستوطنات. القيادات السياسية والعسكرية تجرأت على الارتكاب. أسّست عقيدة صهيونية، ذات ركائز رجعية وإنما، برؤى “خلاصية”، بحيث يحكم اليهود أنفسهم.. وكان ما كان. دولة لشعب. حريات تامة. ديموقراطية حاسمة. قضاء ومحاسبة بلا مهادنة (وزراء ورؤساء سجنوا). مواطنة تامة، إنتاج منافس.
أنشأوا دولة قوية لشعبها ومؤسساتها. استطاعت هذه الدولة أن تهزم جيوشاً عربية في العام 1948. ثم في العام 1956، ثم في العام 1967، حيث دمّرت جيش مصر الجرّار، وجيش إسرائيل العقائدي؟ وجيش الأردن “المدعوم” كذباً من بريطانيا.. ولبنان المعتر.
“إسرائيل”، دولة عظمى. هي راهناً تأمر ولا تطيع أحداً. استطاعت أن تكون الدولة العظمى السادسة. وربما، الثالثة.
“إسرائيل” دولة “لشعبها” وليس لأحزابها وأديانها وترهات السخافات..
ديموقراطيتها حمتها من الانزلاق إلى الانهيار. قضاؤها حاسم. أموالها تُنفق بدقة ومحاسبة. السرقة مدانة بصرامة. (العالم العربي قائم على السرقة والسلبطة والوراثة).
لبنان، وحده بين الدول العربية، الذي يتمتع بحرية ما ولكنها حرية فاجرة غير مقيدة بصدق التعاطي مع النصوص. لدينا قضاء ولكنه يصوم عن الحق. لدينا انتخابات “ديموقراطية” منزوعة الفعالية؟.
لا ديموقراطية مع القيود الطائفية والمذهبية.
لبنان، لديه حرية بصوت عال.
لبنان لديه طائفية بصوت صارم.
لبنان لديه قضاء يُغمض عينيه.
لدينا كل العيوب.
يا له من زمن طويل جداً. خسرنا فيه دائماً. كل شيء. وربحت فيه إسرائيل كل ما حولها.. وصولاً إلى حدود السماء في شمال سوريا.
وبرغم ذلك، مطلوب منك أن تتفاءل. إنما، لدينا قيم يلزم الحفاظ عليها. أولها الحرية، ثم الحرية وبعدها الحرية. ثم الثقافة والثقافة إلى آخر الإبداع.
للبنان، فرصة زاهية، شرط، طرد حثالات الطائفية مع النظام في لبنان.
هل هذا مستحيل؟
إذاً.. عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد.
كاسكم.. مقفّى.. برغم الغصة في القلب.