هل تواجه البشرية مرحلة انهيار الحضارة بعد أن بلغت قمة الحياة، والتي أُطلق عليها عولمة؟
من ينظر الى العالم اليوم من خلال الشاشات التلفزيونية، والحجر “الاختياري” لا يسمح إلا بالرؤية من خلالها، يرى المدن والعواصم وكأنها مسكونة بالأشباح، شوارع فارغة، مطاعم ومقاهي مغلقة، مساجد وكنائس دون مصلين، مسارح وصالات عرض سينمائية بلا جمهور، شركات كبرى تعلن عن تسريح ألاف العاملين لديها (هل سيبلغ عدد العاطلين عن العمل مليار بشري؟)، محلات بيع وشراء مغلقة، كبرى وصغرى، ليس إلا محلات المواد الغذائية تعمل، سلسلة التموين باللحوم وبقية المواد الغذائية تنكسر، كثير من مزارع تربية الحيوانات توقفت عن العمل، شركات الطيران متوقفة، الخ…
حكام العالم الحاليون لا يتميزون بالعبقرية أو الذكاء. الفاشية تنتشر بين الجماهير. حكومات دول كبرى تتهم بعضها البعض بإنتاج فيروس الكورونا ونشره. تهديدات بتشديد الإجراءات على الحدود. على كل حال، السفر من بلد الى بلد شبه متوقف، حتى بين الولاية والولاية في بلد واحد. جماهير ترفض الحجر وتعاني من ضيق النفس. بعضهم ينزل الى الشارع مسلحاً. توقعات بارتفاع معدلات الجرائم والسرقات.
الفيروس لا عقل له. لكن هل يتمتع حكام الكرة الأرضية الذين يديرون شؤونها بكثير من العقل؟ مفهوم أن الوباء أخذ البشرية على حين غرة. لم تكن البشرية مجهّزة لمواجهة الوباء. حتى الآن يقول المسؤولون السياسيون والعلماء أنهم لا يعرفون الكثير عنه، سوى أن العدوى انتقلت من حيوانات الى بشر وهي تنتقل من بشر الى بشر بسرعة. لا دواء له، ولا طعوم ضده، وليس أمام البشر إلا محاولة تفاديه عن طريق التعقيم والتباعد الاجتماعي والحجر الاختياري، وترك الوباء ينمو الى أن تحدث مناعة جماعية، فيبدأ المنحنى الذي يمثّل عدد الإصابات بالانحدار. طريقة بدائية في محاربة الوباء تنم عن جهل وعدم استعداد. ترك الوباء يهزم نفسه أمر يجب أن يؤدي الى تواضع الإنسان أمام غيره من الكائنات.
كثيرة هي المؤسسات في العالم، خاصة المتقدم منه، المكرسة للأوبئة ومحاربتها. لماذا لم يحاربوا هذا الوباء لناحية القضاء عليه؟ أو أنهم لم يعرفوا؟ لم يعرفوا ما كان يجب أن يعرفوه. أو أنهم، الذين يحكمون العالم، ينتظرون الشركات، شركات الأدوية الكبرى من لون أو بلد معين، أن تنجح في ابتكار الأدوية والطعوم. هذا كثير ويفوق القدرة على التحمّل. هل بلغت الرأسمالية هذه الدرجة من الاستكبار والصلف والجشع؟ المخاطرة بمستقبل البشرية في سبيل الربح؟ لماذا تقف البشرية حائرة في الجواب على سؤال: هل الأولوية الآن لفتح السوق أو لإبقاء الحجر؟ لم يكن السؤال مطروحاً لو كانت البشرية، حكومات وشركات، جاهزة لهذه المواجهة التي أعلنتها حرباً. كيف يذهبون للحرب وهم غير مهيأين؟ ولماذا الإفراط في الهلع؟ الآن الوباء أصاب البيض أكثر من غيرهم من الأعراق؟
هدف الرأسمالية هو السيطرة على الإنسان، وتدمير الطبيعة كواحد من الأثار الجانبية. تدمير الطبيعة، الجزء الأرضي من الطبيعة، حصل بشكل أو بآخر. أما السيطرة على الإنسان فعناصرها تكتمل مع الوباء والأزمة المالية-الاقتصادية العالمية. بث الرعب عند البشر. جعل الموت خطراً مخيماً فوق رؤوسهم. قلنا سابقاً أنه موت افتراضي. أنت ميت وأنت حي في وقت واحد. تجربة الموت وأنت على قيد الحياة قد عبرت دون اعتراض.
خضع الإنسان للاستغلال في مختلف الأزمنة لأنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية المتعاقبة، وكما وافق في مختلف العصور أن يُستَلَبَ وتُصادَر منه نتائج عمله، ولم يبق له إلا ما يساعده على التناسل والبقاء. رضي الإنسان بالمظالم المتراكمة على مدى تعاقب الأنظمة. هل يرضى الآن بمجرد النجاة، فقط النجاة، في نظام، إذا انهار أو لم ينهار، سوف يكون ذا قدرة على المراقبة وتقرير ما يفكر به الناس، أي تقرير الإرادة البشرية؟ بعيداً عن نظرية المؤامرة، تقرير الإرادة البشرية بلغ حداً في الأنظمة الديمقراطية أعلى بكثير مما هو في الأنظمة الديكتاتورية.
لم يعد للإرادة البشرية مكان. الإرادة ليست مهمة. المهم ماذا يفعل الإنسان. وما يفعل هو ما يوحى إليه. هو هذا السيل الجارف من المعلومات، ويأخذ العقل البشري في تياره. ليس مهماً ماذا يفكر الإنسان المهم هو التيار من المعلومات الذي يجرف من في مساراته وتساقطاته، ويجرف معه العقل البشري. لم يعد هذا العقل مجالاً للتفكير والتأمل والتعقّل. هو فقط ما يتحرّك في مجرى السيل. لم يعد العقل البشري منشغلاً في مسائل يتعقّد فيها الحل أو تنحل العقد. لم يعد البشري يفكّر في مسائل تستعصي على الحل، وإذا وجد الحل فتلك هي اللذة الكبرى. صار العقل انسياباً لتفكير لا نعرف مصدره ولا نعرف مآله. هو الانسياب الذي يسيطر على العقل لا بفضل ملكة التعقّل والتفكير، بل بفضل عبودية الانسياب مع ما هو مقدر أن ينساب. سيل من المعلومات الى العقل البشري، سيل يصيب الإنسان بالكآبة. لم يعد هناك سرور بالتفكير. هو تعقّل يصاب به من لا يشعر بالكآبة أو بالسرور؛ هو تعقّل لا مكان له في النفس البشرية؛ هو لذة لا ينتج عنها التلذذ. هو شهوة ليس فيها شبق. هو شبق لا يعني شيئاً لمن أحس به. شبق لا ينبع من الحب ولا يؤدي الى الحب. الحب تعلّق بما نحب. شبق الميديا ليس له موضوع. ليس فيه مجنون ليلى إذ ليس فيه ليلى. عندما تختفي ليلى يختفي مجنونها. شعر وشعور بلا موضوع. أن تكون صاحب عاطفة وأن لا يكون موضوعها الأقربون إليك. أولادك ولدوا من صلبك، لكن صلبك اختفى. أصبحت بلا قوام مثل تلك الدودة الطويلة التي تعربش على الأشجار. لا قوام لها هي، فقط معلقة ببعض الجذوع. هكذا يُراد للإنسان أن يكون؛ لا قوام له.
تكلم الكثيرون عن رأسمالية العصر المتأخر، وكأنها الاحتكارات أو ما بعد الاحتكارات. هي رأسمالية الرقابة الكاملة على الإنسان. هي رقابة أن يعرف عنك مركز من مراكز “غوغل” أو “أبل” أو “ياهو” أكثر مما تعرفه عن نفسك. هي رأسمالية من يعتقد أنه موجود، وأنه إرادة، وأنه عاطفة، وأنه إنسان، ليجد أنه موجود في انبوبة الغوغل. أغرقتك غوغل بالمعلومات. تظن أنك تعرف. وما تعرف هو معلومات تم ضخها في دماغك. أنت لست أنت. أنت ما يُضخ في دماغك. هي ما يُقال لك، ماذا تفكر وكيف تفكر ولماذا تفكر. هي رأسمالية الرقابة. شرط وجودك أن تبقى تحت الرقابة.
في زمن الآلة الذكية، وكل منا يحمل آلة يعتقد أنها امتداد لذكائه، بينما هي امتداد لذكاء من صنع الماكينة، وباعه إياها. نحمل الماكينة ونظن أننا نسيطر عليها، ولا نعرف أنها ماكينة تسيطر علينا. هي تعرف أين نحن، تعرف بماذا نفكّر، تعرف بماذا سوف نفكّر. هي تفرغ المعلومات في دماغنا، بحيث نتجه الى التفكير بما يُملى علينا.
هي جمهورية من نوع جديد. جمهورية الرقابة. جمهورية يشارك فيها الجميع بملء إرادتهم. الرقابة لأن غرفة مركزية في مكان ما تصنّع الإله الذي يعرف كل شيء عنك. تعريف الجمهورية أنها تتشكّل من مواطنين لكل منهم تفكير مستقل حسب ضميرهم. كيف تكون جمهورية هذه التي يتقرر فيها التفكير في غرفة مركزية ومنها تُبث شلالات المعلومات لتقرير كيف يفكر وكيف يعمل الضمير الفردي. هي جمهورية الرقابة. الرقابة حيث تقرر الغرفة السوداء، المغلقة والمجهولة المكان، كيف ولماذا نفكّر كما نفكّر. في هذه الجمهورية تقرر الغرفة المركزية أفكار الناس واتجاهاتها. هي ليست ديكتاتورية. ليس هناك أجهزة مخابرات. هناك جهاز واحد يعرف عنك كل شيء. يعرف ما أنت، ومن أنت، ومن أين أتيت، والى ماذا سوف تذهب. هو يعرف بماذا تفكّر لأنه قرر سلفا أن المعلومات التي أغرق بها دماغك سوف تدفعك للتفكير بما يجب التفكير به.
ما كان ممكنا حمل هذا التطوّر الى نهاياته إلا بالحجر “الاختياري”. يجب أن تخرج من الشارع، وتخرج من المجال العام، وتخرج من السياسة، وتخرج من احتمال أن يكون لك رأي. تصير في غرفة أنت والماكينة. تنصب المعلومات على دماغك. ربما لم يستسلم دماغك، إذا كان بقي فيه بعض المقاومة. لكن الدماغ حتى غير المستسلم سوف يتأثر بنهر المعلومات التي يغرق فيها. لن يبقى من لا يستسلم. حتى الذين ينكرون الاستسلام مضطرون للانضمام الى القطيع.
حصل تدجين وترويض للبشرية. حصل ترويض للمقاومة. البشرية مخيرة بين البقاء أو الاستسلام. لا بدّ من اختيار البقاء. هو خيار البروليتاريا أيام الثورة الصناعية. إما أن يعمل بأجور زهيدة تضمن التناسل، لا أكثر أو أقل، أو تكون البطالة التي تقود الى الفناء. الآن هو الخيار الأكثر فجاجة: إما البقاء تحت أعين الرقابة أو الفناء (الفناء بالمعنى البيولوجي). أن تبقى تحت الرقابة معناه أن تفقد الإرادة ( وقد فقدتها بسبب سيل المعلومات التي كونت لك إرادة جعلك أسيرها)، وأن تفقد المعنى الإنساني (لا معنى لإنسانيتك دون إرادة)، وأن تفقد الحاسة التي تنبع من الأحشاء. تفقد بداهتك. تفقد ردة فعلك المباشرة. تفقد ما نشأت عليه من الحرية والمبادرة والشجاعة والشرف والكرامة؛ تصير رهنا لما يرد إليك على وسائل الاتصال الاجتماعي. لا تستطيع مواجهة هذه الوسائل بسبب كثرتها وطغيانها. ماذا يبقى منك أيها البشري. مجرد استهلاك لأمر لا رأي لك في نشوئه وتطوره.
مشكلة الاستهلاك هي الطلب. المطلوب الخلاص من عبء المستهلك وخياراته، ومن عبء الديمقراطية ونقاشاتها التي لا تنتهي. لكن الاستهلاك والديمقراطية تعنيان الطلب. الطلب على المنتجات الرأسمالية، ومنها ما يملي على الإنسان حاجاته. إذا انتهى الطلب فماذا بعد؟ في الرأسمالية القديمة كان ضرورياً بقاء الإنسان من أجل التناسل كي يبقى العمال وينتجون القيمة وفائض القيمة. في الرأسمالية الجديدة، ليس ضرورياً أن يبقى الإنسان. هذا ما فعلته الكورونا.
تقبل أو لا تقبل، هذا إن بقي لديك قدرة على المقاومة؛ هناك التعقيم. أينما ذهبت، تلحقك ماكينة التعقيم. عفواً، هي لا تتعلّق بما لديك من القدرة العقلية، أو بما تبقى منها. مع بالغ الاحترام، نقول أنه بقي لدينا ما يكفي من القدرة العقلية. نقف عند هذا الحد. ماكينة التعقيم عند مدخل كل بناية، وفي الأيام الأخيرة في مدخل كل بيت؛ تخيرك بين البقاء والفناء. لم يبق عند العقل خيارات. لم يبق للعقلانية مجال، إذ لم يبق لها تعدد الخيارات: أنت بين البقاء والفناء. طبيعي أن تختار البقاء. هو البقاء دون خيارات تفترضها أنت، أو تناقشها على أنها بعض تنوّع الإرادة. هناك إرادة واحدة، إرادة البقاء؛ وهي تملى عليك. الفناء تعبير صوفي لكنه في الحياة اليومية يعني الانتحار. الانتحار كفر. هو ممنوع وليس أمامك إلا البقاء. هو البقاء مشروط بمن يملي عليك التفكير. الرقابة الكاملة التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي تملي عليك ما يجب التفكير به. تملي عليك الإرادة. أنت لا تريد إلا ما يراد منك ولك. إرادة لا يفرضها الرقيب مباشرة. هي إرادة تفرضها عليك رأسمالية الرقابة التي تدير الرقيب، والتي تعيّن الرقيب بسيل المعلومات، والتي تعيد التشكيك، وتخلق من جديد، تخلق نفسك مرة أخرى.
تنهار الحضارة! نعم. ما ينهار هو رأسمالية ليبرالية صارت نيوليبرالية. كان ما يزال فيها مجال لحرية الرأي. ما ينهار هو نظام عالمي حقق مستوى عاليا من حرية الحركة. حركة الرأسمال، وحركة التجارة، وحركة البشر. وإن كانت حركة البشر بقيت محدودة بسبب حدود الدول. ينهار هذا النظام العالمي الذي حقق للبشر حريات كنا نحتج أنها ناقصة وغير كافية. كنا وما زلنا نحتج ضد النيوليبرالية بسبب أنها أعطت حرية للرأسمال أكثر مما أعطت للبشر. لكن يبقى فيها للبشر حقوق، حقوق الإنسان، والمرأة، والطفولة، إلخ… حقوق ترعاها منظمات دولية. ما بعد النيوليبرالية، أو ما بعد الكورونا ستكون هناك حقوق على الورق ورقابة حقيقية على كل ما يفعله الإنسان. هي ليست رقابة وحسب، هي تقرير لما ستكون عليه إرادة البشرية لأن المعلومات التي تُضخ في كل لحظة ضد الدماغ البشري يُغرقه بما سوف يقرر. وهو سوف يقرر بما أغرقه. من غرفة صغيرة في زاوية من الأرض سيكون باستطاعة كابال (جماعة سرية أو غير سرية) أن تقرر السلوك البشري. هذا الأمر ليس وليد وباء الكورونا ولا الأزمة المالية-الاقتصادية. هو وليد التطوّر الرأسمالي الذي بدأت مرحلته الأخيرة قبل الكورونا وقبل تبيان الأزمة المالية. لم يعد أمام الرأسمالية العالمية خيارات أخرى: إما أن تنهار أو تمسك البشرية بالكامل عن طريق تكنولوجيا الرقابة.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق