طلال سلمان

انقلابان على فلسطين

… ولأن الحديث في ما تتعرض له فلسطين وشعبها شأن لبناني بامتياز، خصوصاً في هذه اللحظة الباردة نكمل من حيث توقفنا بالأمس؛
… فليس انتقاد الممارسات الخاطئة لسلطة حماس، وبالتحديد للفظائع التي ارتكبها بعض محازبيها أو المتلطين بشعاراتها بحق الأخوة الأعداء من المنتسبين إلى حركة فتح أو مناصريها في غزة، تزكية مجانية، بأي حال من الأحوال للسياسة التي اعتمدها رئيس السلطة محمود عباس ومن معه من مخاتير حركة فتح وجنرالات الفساد الذين استقالوا من وطنيتهم منذ زمن بعيد.
ولربما رأى البعض أن الانتقاد كان قاسياً، لكنه يتوازى مع حجم الآمال التي كانت معلقة على حركة حماس، خصوصاً وهي تدرك أن الفلسطينيين قد التفوا حولها، من خارج حزبيتها، تأديباً لانحرافات جماعة فتح في السلطة وخارجها، والتي استفزت وطنية شعبها فاتجه إلى منافسها آملاً أن يقدم النموذج المرتجى في ممارسته السلطة من داخل التزامه الأخلاقي والديني المتكامل بالضرورة مع التزامه الوطني.
ذلك أن حركة حماس كانت، عبر سنوات نضالها وعبر دماء مجاهديها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، قد نجحت في ضخ زخم جديد في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ثم نجحت في تقديم نفسها كحركة تلتزم الديموقراطية (أي الإرادة الشعبية) حين وافقت على خوض انتخابات المجلس التشريعي وحققت فيها فوزاً باهراً بتزكية شعبية واسعة…
وكان يمكن تفسير التأييد الشعبي لحماس على أنه إنذار من الفلسطينيين لتنبيه قيادة فتح إلى أخطاء سلطتها التي غرقت في الفساد وأضافت إليها خطيئة الانحراف السياسي الذي تفاقم بعد رحيل الزعيم ياسر عرفات، فقارب في حالات كثيرة حدود الخيانة لتاريخها ودماء مجاهديها وأماني شعبها التي تواضعت في ظل الواقع العربي البائس بانحرافه المشين، إلى حد التسليم باتفاق أوسلو الذي لا يحقق حتى الحد الأدنى من الأدنى من الطموحات المشروعة للشعب الفلسطيني في سلطة وطنية فوق أرضه، فكيف بحلم الدولة والاستقلال؟!
… فضلاً عن أن هذا الاتفاق البائس لم ينفذ، فعلاً، واكتفت إسرائيل بأن تقبل منه ما يلائمها ثم تركت الباقي يموت بالإهمال..
ومن الإنصاف لحماس القول إن قيادة فتح لم تستطع أن تقبل نتائج الانتخابات، وقد وجدت دول العالم جمعاء تحرّضها على رفض الشراكة مع حماس، فخضعت للابتزاز الإسرائيلي وقدمت المزيد من التنازلات الجوهرية، حتى لقد بدا في لحظة وكأنها حالفت السفاح أرييل شارون، ومن بعده إيهود أولمرت، ومن خلفهما الإدارة الأميركية، ضد حماس… وإلى جهنم الانتخابات والأصوات والديموقراطية!
ومن الإنصاف لحماس، أيضاً، القول إن حكومتها الأولى قد أخضعت لحصار شديد شاركت فيه الكثرة الكاثرة من دول العالم، غرباً وشرقاً، عرباً ومعظم الأنظمة الإسلامية ، إضافة إلى إسرائيل التي كادت تمنع الهواء عن غزة..
كانت الكيدية تحكم مسلك سلطة فتح، ومعها الارتباطات والتعهدات التي تورّط في إعطائها أو اندفع إليها محمود عباس مع الإسرائيليين، أساساً، ومع الإدارة الأميركية التي أغرقته بالمدائح والوعود وإغراء المساعدات إذا ما قطع مع حماس وانقلب عليها مستفيداً من التأييد العربي (بالإجماع!!) والدولي (بما يشبه الإجماع) الذي اتخذ في لحظات محددة شكل التحريض على الحرب الأهلية…
ولعل مقاطعة محمود عباس حكومته ، والحجر عليها، وحجب المساعدات التي كانت تأتي للسلطة عنها، ورفض مطالبتها بالشراكة، سواء بالقرار السياسي أو بالإجراءات (والتعيينات) الأمنية، قد دفعت بحماس إلى إقامة سلطة ظل حيث تقدر، أي في غزة.
كان حصار الرئاسة يتكامل مع الحملة الإسرائيلية الشرسة على الرموز المدنية لحماس، وبينهم رئيس المجلس التشريعي ومعه بضعة عشر نائباً، من دون أن يصدر عن الرئيس موقف اعتراضي جدي، ومن دون أن يوقف اتصالاته بل ولقاءاته مع الحكومة الإسرائيلية (هل يمكن نسيان صوره وهو يتبادل القبلات مع إيهود أولمرت بينما الطائرات الحربية الإسرائيلية تطارد المجاهدين في غزة والضفة و تتصيّد من يتحرك منهم بين بيته ومكتبه، مثلاً؟!).
… حتى كان اتفاق مكة الذي وقعه الطرفان بالإحراج أو بالإكراه.. وأعيدت صياغة الحكومة بعملية قيصرية وافق عليها الكل اضطراراً، وإلى حين يتمكن كل طرف من إحراج الآخر لإخراجه، في ظل تعبئة واسعة للمحازبين والمناصرين، حتى غدت غزة غابة من المسلحين يتجولون بعنترية وسط حشود من مواطنيهم المجوعين، والمؤسسات أو الدوائر الخاوية على عروشها، لأن الموظفين لا يتقاضون رواتبهم، فإذا ما نالهم منها نصيب صرفوه لتأمين الخبز لعيالهم… وأرجأوا سداد الديون المتراكمة للدكاكين حتى يفرجها الله ..
كان القرار بحصار الحكومة دولياً، يحمل في طياته التحريض على الانقلاب!
وأغلب الظن أن الطرفين فتح وحماس كانا يُعدّان لمثل هذا الانقلاب: فتح في رام الله مع احتمال أن تسبق في غزة، وحماس في غزة، على أن تنظر في أمر الضفة في ضوء الضربة الاستباقية وتداعياتها.
وفي ضوء النتائج يمكن القول إن حكومة محمود عباس الجديدة كانت جاهزة وشهادة التأييد الدولي الواسع.. فالحماسة الدولية كانت فضاحة… وهكذا أخرجت إلى النور خلال ساعات، بينما كانت حماس تنجز انقلابها العسكري بأسلوب انكشاري، جللته ممارسات لا يقبلها عقل أو ضمير، ويرفضها أشد الناس تأييداً لحماس بتاريخها الجهادي الذي جعلها عند كثيرين البديل الأفضل من فتح التي فجعها اغتيال ياسر عرفات، على أيدي الإسرائيليين فكشف ترهلها وانغماسها في لعبة الفساد عبر ممارساتها السلطوية التي تنقض سجل أمجادها النضالية وتطمسها.
وهكذا خسر الشعب الفلسطيني على الجبهتين، فلا حماس تعلمت من أخطاء فتح فتجنبتها، ولا فتح اتعظت بدروس التجربة الانتخابية التي كشفت ابتعادها عن قواعدها الشعبية.
وسيكون على هذا الشعب الأسطوري في صموده وثبات روحه النضالية، واستعداده غير المحدود من أجل حقه في أرضه المقدسة، أن يعيش فصلاً جديداً من فصول نكبته الممتدة جيلاً بعد جيل.
… ومع الغياب العربي المفجع، الذي يضمر التواطؤ، يُترك الشعب الفلسطيني وحيداً في مواجهة مخاطر الحرب الأهلية، معززة بالحصار الذي يكاد يمنع عن غزة الهواء، وبالمساعدات التي تنهال على سلطة محمود عباس بأكثر من قدرته على تلقيها والتصرف بها في ما ينفع هذا الشعب العظيم في حاضره وفي غده… خصوصاً في غده الذي صار رهينة القدر الإسرائيلي معززاً كما دائماً بالتأييد بل التحريض الأميركي المكشوف.
هل تنفع بعد النداءات في وقف سيل الأخطاء المتبادلة والتي تكاد تدمّر ما تبقى من القضية ومن حلم الوطن؟!
لك الله يا شعب فلسطين!

Exit mobile version