طلال سلمان

انطباعات عن عالم مضطرب

عقود عديدة مرت على الولايات المتحدة وهي تغير كل ثمانية أعوام، وأحيانا كل أربعة، رؤساءها. تعرف حكام الدول وقتها على من يحكم أمريكا وتعلموا كيف يديرون علاقاتهم بهم. عرفوا أن هناك رئيس ومؤسسات ورأي عام ونظام ديموقراطي وطبقة حاكمة تبدو للعين المجردة كما لو كانت أبدية. فجأة، وإن بسابق إنذار، هبط على واشنطن السيد ترامب. لم يأت حاملا راية وفكر وتوجيهات الحزب الجمهوري بل جاء ضد إرادته. جاء من خارج السياسة ومعلنا كرهه لها. جاء بعقل ومال ونفوذ رجال أعمال كبار وقوميين عتاة وعنصريين من البيض عطلتهم عن العمل العولمة وحرية التجارة وانتقال مصانع إلى المكسيك ودول أخرى.

***

أمريكا كانت تتغير خلال سنوات سبقت ظهور ترامب مرشحا للرئاسة. كانت تتغير بتدرج لاحظه البعض وأغفله كثيرون ، لكنها تغيرت طفرة وقفزات في عام واحد قضاه ترامب رئيسا لها. تغيرت سمعتها بين الدول حتى صار يقال أنها تتحدث بلغة الإمبرياليات العتيدة وليس بأي لغة عصرية. يقول الرئيس إن بلاده يجب أن تضع يدها على نفط العراق، كله وليس بعضه، فهو حقها. العراق في رأيه بلد فاسد ولا يستحق هذه الثروة. كذلك يتعين على كل دولة استفادت أمنا أو نموا أو استقرارا من وراء تحالفها مع أمريكا أن تدفع الثمن. ليس مهما أن تكون أمريكا نفسها حققت منافع من هذه التحالفات. هو نفس المنطق الذي يحكم سياسة ترامب في الهجرة. المهاجرون من المكسيك لصوص وحملة أمراض ومن العالم الإسلامي إرهابيون. أمريكا في رأيه وسياساته لن تدخل مرة أخرى في اتفاقيات تجارة جماعية. العالم كله وبخاصة الصين والاتحاد الأوروبي استنزف رخاء أمريكا وتركوها مدينة له. لا أحلاف عسكرية إلا إذا دفعت الدول الحليفة أنصبتها ولا اتفاقات تجارة حرة إلا ثنائية ولمصلحة أمريكا أولا.

عام من حكم دونالد ترامب انتهى بأمريكا أكثر انحدارا في مكانتها عن عهد باراك أوباما. لم يبدأ الانحدار بترامب وإنما بانحسار فانسحاب من عهد أوباما وربما قبله. المسؤولية ليست فقط مسؤولية حكم بعينه رغم التدهور المستمر الذي أصاب البنية التحتية، ولكنها أيضا مسؤولية صعود دول أخرى وبخاصة الصين وروسيا ومسؤولية السلوكيات غير الأخلاقية للرئيس وأسلوب تعامله مع القادة الآخرين من أمثال ماكرون والمستشارة ميركيل ورؤساء المكسيك وكندا ورومانيا. هو العام الذي شهد بداية التحقيقات في فضيحة العلاقات السرية التي قامت بين رجال المرشح ترامب وعناصر في حكومة الرئيس بوتين وخارجها. هو أيضا العام الذي سوف يسجل في التاريخ الدبلوماسي وعلم السياسة ومهنة الإعلام باعتباره تاريخ منشأ التغريدة الإلكترونية كأداة حكم وكواسطة دبلوماسية أبلغ تأثيرا من الوسائط التقليدية، وباعتباره أيضا اللحظة الفارقة في تاريخ الصحافة وعلاقة السلطة بأجهزة الإعلام. إن ما أحدثه ترامب في هذا المجال لم يقتصر على الساحة الأمريكية بل تجاوزها إلى ساحات أخرى في العالم بأسره.

لا شك في أن الرئيس ترامب يقدم تجربة جديدة في علاقة البيت الأبيض بغيره من مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة. هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم ينجز في العام الأول من ولايته تشريعا واحدا ذا قيمة، ربما باستثناء قانون الضرائب الذي وقع عليه قبل نهاية العام بأيام. قدم أيضا تجربة جديدة في علاقة الرئيس الأمريكي، والسلطة عموما، بالإعلاميين والمثقفين والطبقة السياسية الحاكمة. هناك أيضا تجربته مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية وعلاقته الفريدة بالمؤسسة العسكرية. في تصوري أحسنت المؤسسة صنعا حين هادنت الرئيس حين كانت حاجتها ماسة إلى زيادة كبيرة وغير عادية في ميزانية التسلح بعد سنوات أوباما العجاف. كذلك أحسن الرئيس صنعا حين سمح لممثلي العسكريين في السلطة بتصحيح ما يعتقدون أنها أخطاء يرتكبها في تغريداته ومحادثاته مع مسؤولين في الدول الحليفة. الطرفان أحسنا صنعا حين توافقا على أن يكون لأمريكا سياستان تجاه روسيا، سياسة يقودها وينفذها شخصيا الرئيس وفي الغالب لم ينجح فيها مثل محاولته رفع العقوبات عن روسيا وتغيير المزاج الشعبي المتوجس دائما من روسيا شرا، وسياسة يضعها ويضغط لتنفيذها العسكريون وأنصار الحرب الباردة في جهاز الدولة، وهي التي تدخلت مثلا في صياغة ما عرف باستراتيجية ترامب للأمن القومي لتصنف روسيا والصين دولتين عدوتين واصر الرئيس على تخفيف هذا التصنيف في مكان آخر من الاستراتيجية واعتبارهما منافستين لأمريكا.

***

دونالد ترامب ليس فريدا في نوعه وأسلوب حكمه ورأيه في السياسة وعشقه لذاته. عديدون هم الحكام الذين جاؤوا مع مطلع الألفية الجديدة يثقون ثقة كبيرة في أن العصر ليس عصر ديموقراطية ومشاركة واسعة في الحكم، ليس عصر الحكم بالمؤسسات كالبرلمانات الفاعلة والقضاء العادل والقضاة المستقلين. يكرهون الإعلاميين إلا من وظفوهم وحتى هؤلاء فإلى حين لا يتجاوزونه. لا يثقون في فرد أو جماعة تنتسب إلى الطبقة السياسية الحاكمة. الأحزاب في رأيهم كالبرلمانات سبوبة لتحصيل الجاه والمال. الشعوب في الغالب فاسدة أو قابلة للإفساد وغير وفية لحكامها ولا يفيد في تسييرها إلا القمع إذا فاحت في صفوفها رائحة ملل أو رغبة في التغيير أو نكران الجميل. الإقصاء والإفناء أجدى بكثير من الاعتقال والحبس والأمل في تهّذيب أو إصلاح المنشقين وعتاة المعارضين وتجار المخدرات ومروجيها وعصابات الجريمة والمتاجرة بالبشر.

***

هذا الصنف من حكام الألفية كان الغالب في العام الذي انقضى قبل أيام وسيبقى غالبا في العام الجديد والأعوام التالية. لا يختلف الواحد من هؤلاء الحكام عن الآخر إلا في أضيق الحدود أو خضوعا لقوة قاهرة صمدت قليلا في وجه التيارات الفكرية والتكنولوجية المصاحبة لرياح الألفية. الشبه كبير في الجوهر والتوجه. دوتيرتي في الفيليبين نموذج يحترمه الآن أكثر الرؤساء وفي صدارتهم زعيما الصين والولايات المتحدة. تطرف كثيرا في اختيار أسلوبا بشعا للتخلص بالقتل من مواطنين أخطأوا، لا احترام لمنظومة حقوق ولا انتظار حكم القانون. فلاديمير بوتين في روسيا نموذج آخر. يعتمد على عناصر وجماعات فاسدة وعلى قوى استخباراتية وأمنية وجيوش تابعة لشركات المرتزقة يدير بها دولة شاسعة الأطراف والتاريخ كانت عظمى وتسعى لاسترداد عظمتها. وفي الصين يقف على قمة هرم السلطة رئيس يحلم بتبوء مكانة الزعيم التي لم يصل إليها رئيس منذ رحيل الزعيم ماو. يعتقد أن نظام حكمه يستند إلى قاعدة لا تتوفر لرئيس آخر في العالم. لا رئيس أو حاكم في هذا العالم يقف مثله على رأس تنظيم سياسي يضم أكثر من سبعين مليون عضو ملتزم ومتفان. ومع ذلك تفتقر البلاد إلى نظام قانوني مستقل وإلى احترام لأي حرية من الحريات أو حق من الحقوق. وفي المجر وبولندا ورومانيا وتركيا وإيران وباكستان وميانمار وعديد دول إفريقيا والشرق الأوسط حكام يعلمون أنه بدون وجود الائتلاف الضمني القائم بين ترامب وبوتين وشي، حكام الولايات المتحدة وروسيا والصين، ما قامت لهم قائمة أو طالت.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version