طلال سلمان

انطباعات.. المؤتمر

كان بين رفاق المراهقة من استحق الحسد. مراهقته جريئة وجسورة ومراهقتي خجولة وناعمة. قضيت سنوات الجامعة أراقب بالإعجاب جرأة الطلاب الذين يجادلون الأساتذة في قاعة المحاضرات بينما كان تفضيلي أن أجادلهم في مكاتبهم ومنازلهم، وإن تعذر اللقاء في المكتب أو المنزل فليكن في بار نادي الصيد. بدأت لقاءات النادي بنصيحة من أستاذ بجلته طويلا، بجلته حتى بعد أن اختاروه وزيرا. جاءتني النصيحة بربتة على كتفي وابتسامة سبقت كلماته. فهمت ليلتها ما يفيد بضرورة أن أتفادي الجلوس على تلك المقاعد العالية المنصوبة حول البار لأنها، حسب قوله، تسيئ إلى السمعة وتولد شبهات لا داعي لها. دعاني إلى مائدته.

***

جلسنا اثنين، أستاذ وطالب، زدنا خلال شهرين فأصبحنا خمسة، أستاذان وثلاثة طلاب. كان لأغلبهم فيما بعد شأن عظيم. هناك في هذا البار وحول هذه المائدة خرج إلى الحياة هذا الشاب الصغير سنا واليافع قامة والمتعطش إلى معارف وثقافات وتجارب. أجاد الاستفادة من هذه اللقاءات المحدودة العدد وفضلها على المؤتمرات الكبيرة والاجتماعات الواسعة. كثيرا ما تساءلت عما إذا كان لهذا النفور من المؤتمرات والاجتماعات الغفيرة العدد علاقة باختياري العمل في مجال الدبلوماسية الثنائية مفضلا إياه على مجال الدبلوماسية متعددة الأطراف أي دبلوماسية المؤسسات والمؤتمرات الدولية، أو جاء نتيجة اكتشاف المسئولين عن مستقبلنا في الدبلوماسية أنني لن أكون نافعا في هذه الأخيرة.

***

بعد عامين أو أكثر قليلا حضرت أثناءها في الهند مؤتمرين أكاديميين وفي الصين مؤتمرا للحزب الشيوعي الصيني وفي ايطاليا مؤتمرات لأحزاب عديدة، كلفتني رئاستي في روما تمثيل الجمهورية العربية المتحدة في المؤتمر السنوي العام الذي تعقده منظمة الزراعة والأغذية، إحدى المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة. لن أنكر انبهاري. انبهرت باتساع القاعة وانضباط العمل وبالمتحدثين بدون رهبة. أذكر أنني طلبت الكلمة مرتين في اليومين الثاني والثالث. شجعني أن في هذه القاعة الشاسعة لا أحد يراني فالمقاعد متراصة كقاعة محاضرات ومقاعد الرئاسة المطلة على القاعة بعيدة عني وبالكاد يستطيع الجالسون عليها التعرف على قسمات وجهي. شجعني أيضا أنني جئت للمؤتمر مزوداً بنصين لمداخلتين سياسيتين إن دعت الحاجة لهما. لم اتلعثم ولم أخطئ في النطق بالكلمات. لم أتلق تهنئة من أحد في القاعة ولا أظن أن أحدا علق على المداخلتين أو أشار لهما.

***

كان يمكن أن تنتهي علاقتي بهذا المؤتمر عند هذا الحد وأنسى تماما التجربة من أساسها، خاصة وأن الانبهار بالقاعة والانضباط تحول بعد اليوم الثاني إلى أمر عادي. وكما توقعت بدأ السأم والضجر يحلان محل الفضول والانبهار. تصرفت في اليوم الرابع وما بعده كما كان يجب أن أفعل منذ البداية، وهو أن أقضي وقتاً أقل في قاعة المؤتمر ووقتاً أطول في صالات الطعام والشراب والتعارف والدردشة. بالفعل اكتشفت أن للمؤتمرات طعم آخر وحياة أخري وأن بين المشاركين والمساعدين والمترجمين أشخاص متنوعي الأمزجة والثقافة. هناك في إحدى تلك الصالات غير الرسمية حدث ما جعلني أخصص لهذه التجربة مكانة خاصة في سجل ذكرياتي. حدث أن قابلت من حفر حفرا في الذاكرة رواية تستحق أن تروى، ولن تروى، أو على الأرجح لن أكون أنا راويها.

***

لم أعرف وقتذاك أن يوما سيأتي أجد نفسي فيه على رأس جهاز متخصص في تنظيم وعقد مؤتمرات علمية وندوات وحلقات نقاش. قابلت في بداية المرحلة من دربني على القاء خلاصة دراسة قمت بها دون الاستعانة بالدراسة نفسها. تعلمت أهمية أن يلقي المحاضر محاضرته وعيناه تخاطب الحاضرين. قيل لي أثناء تدريبي، اختر من بين الجالسين في الصفوف الأمامية شخصا سوف تركز عليه خلال القائك محاضرتك. اختره شخصا لا يتحرك كثيرا ولا يتكلم مع جيرانه. افترض أن الجالسين لا يعرفون الكثير عن الموضوع الذي تتحدث فيه فاشرح. افترض أيضا أن موضوعك ليس خفيفا على كل الحاضرين فاحكي روايات أو الق عليهم بظرائف في اللغة أو من الحياة فتجذبهم إليك. مطلوب مني أيضا أن أكون حاضر البديهة خفيف الظل منتبها دائما إلى عدم تجاوز الوقت ومتيقنا من أن الملل لم يتسرب إلى أعضاء المؤتمر أو جمهور المحاضرة. قيل لي، تأكد من أنك لم تقل كل ما عندك فهناك من يتربص بك ليلقي بالسؤال القنبلة حين يأتي الوقت المخصص للأسئلة والتعليقات. اعمل على أن تكون الكلمة الأخيرة في الجلسة هي كلمتك وليست كلمة محاور أو مداخل.

***

ليس كل المعلمين محاضرين جيدين ولكن كل المحاضرين الجيدين معلمون جيدون. وليس كل من امتلك ناصية القلم قادرًا على أن يكون محاضرا جيدا، وليس كل من قرض الشعر أجاد القاءه، وليس كل من أحب الكلام واتسعت معارفه متحدثًا جذابًا.
كذلك الحضور، فليس كل مواظب على حضور المؤتمرات مستمعاً أميناً. بعض الحضور تدفعه شهوة. تابعت على امتداد ثلاثين عام أشخاصا يدمنون حضور المؤتمرات، لا يهم الموضوع ولا نوعية المحاضرين والمشاركين، المهم بوفيه ما بين الجلسات. هناك أيضا شهوة الشهرة. بعض آخر من الحضور يتعمد أن يدخل القاعة متأخرا تصحبه جلبة ليراه الناس ويتوقف من أجله المتحدث عن الكلام. شاركت قبل يومين في الاحتفال بمناسبة دينية. بدأت المراسم والمقاعد المخصصة لكبار المسئولين خالية. توافدوا واحدا بعد الآخر خلال الترانيم والصلاة. كل منهم لا يجلس على مقعده قبل أن يتأكد مرافقوه العديدون من أن تحت مقعده خال من شيء مشبوه، وقبل أن يمر على من سبقه في الحضور من زملاء الشهرة فيحييهم واحدا واحدا بالمصافحة ثم الأحضان والقبلات. أستدير، عند دخول كل واحد من هؤلاء المتخلفين عن موعد الحضور، لأسأل جاري عن هوية الضيف. يعود جاري العارف لكل الناس ليهمس بدوره أنه لا يعرفه، ولكن يبدو له أنه وزير. المناسبة مجيدة ومثيرة للأمل والرجاء وبعض الحضور مثير لليأس والاحباط.

***

بين الشهوات شهوة السفر. عشت طفولتي ومراهقتي أعرف أن السفر عادة مذمومة. كان المصريون على وجه العموم يخشون السفر. تغيروا. كثيرون أبلوا في المؤتمرات الخارجية بلاء حسنا وكثيرون أساءوا إلى أنفسهم ووطنهم بشهواتهم الملتهبة دائما. رأيت مشاركين يتسببون في تأجيل جلسات أو تعطيل افتتاح مؤتمر لإصرارهم على عدم القاء محاضراتهم أو مداخلاتهم قبل أن يستلموا مكافآتهم نقدا. سمعت عن مشاركين من الكتاب المعروفة اسماؤهم ينتهزون فرصة وجودهم في مؤتمرات ليكتبوا جميع مقالاتهم الأسبوعية دفعة واحدة. أضف إلى ما سبق شهوة الفيسبوك، كثيرون أعرفهم لا يطيقون فراق أجهزة تواصلهم الالكتروني حتى وهم يرأسون الجلسات، بعضهم لا يتوقف عن تبادل الرسائل مع بعضهم البعض داخل المؤتمر أو لإدارة أعمالهم في الخارج. آخرون لا يحلو لهم النوم إلا في قاعة المؤتمر. هؤلاء أجد لهم عذرا. لقد دأبت الفنادق ودور المؤتمرات مؤخرا على الاستغناء عن التهوية الطبيعية بتهوية داخلية لا تفي بالغرض. النتيجة نقص في الأكسجين يتسبب في الكسل وضعف القدرة على التركيز بالإضافة إلى احتمال الإصابة بأمراض تصيب عادة نزلاء المستشفيات وركاب البواخر النيلية والطائرات، أمراض متنوعة ليس أقلها شأنا علل التنفس والحساسية الشديدة.

***

يعيبون علينا حنيننا إلى الماضي، ونتمنى لهم ماض يحنون إليه.

Exit mobile version