طلال سلمان

انطباعات.. الكتابة في الماضي

منذ أن جربت الكتابة في الماضي وأنا أنصح كل من أقابل باقتحام هذه التجربة. نصحت الشباب قبل أن أنصح الكبار. قيل ولكن الصغار ماضيهم قصير ولن يجدوا فيه زادا كافيا للكتابة، قلت بل فيه ويفيض لو عرف الشاب منهم قيمة الأيام التي عاش يستعجل مرورها، وقيمة الأعمال الناجحة التي حققها، وقيمة الفشل الذي مني به مرة بعد أخرى. كثيرون لا يدركون أهمية التجارب الفاشلة في حياتهم ودورها في تحقيق النجاح في تجارب أخرى. قابلت في حياتي مئات بل آلاف من الشابات والشبان كتبوا مقالات وأرسلوها لصحف لم تنشرها. أصابهم الاحباط. أعلنوا الفشل واستسلموا. آخرون فكروا في إعلان الفشل ولم يستسلموا. هؤلاء عرفوا  قيمة الفشل أو لعله وصل إليهم قول مشهور للنحات السويسري ألبرتو جياكوميتي. كان يقول إن كل تجربة فاشلة في حياة الإنسان هي نفسها إضافة إلى إمكانات نجاحه، وكلما زادت تجارب الفشل زادت فرص النجاح.  أنصح الناس، والشباب بخاصة، باقتحام ميدان الكتابة في الماضي وعنه مزودين بخبرة النحات جاكوميتي في الاستفادة من تجارب الفشل ليصل إلى النجاح. أضمن إن فعلوا هذا أن يعثروا على رواية جديدة لحياتهم. أضمن لهم متعة لا تعادلها متعة أخرى.

***

لي، كما لكثير من الأصدقاء والصديقات حكايات من الماضي مع المهن وحكايات مع الأماكن وحكايات مع الناس. كتبت عن واحدة من تلك الحكايات وتعلمت منها أشياء كثيرة. علمت عنها وعلمت منها ما لم أكن أعلم. علمت أن شهادات التفوق والإنجاز والامتياز لم تفدني بقدر ما أفادتني تجارب الفشل. الكتابة للذات بما تفرضه من أمانة وصدق تمنح الكاتب فرصة أن يبحث ببرود وبعيدا عن أي ضغوط عن أسباب فشل تجارب حتى يجدها ثم يربطها بما لحق بها من جهد وعزيمة ليدرك كيف تحقق النجاح في تجارب أخرى استحق عليها الإشادة. تذكرني الكتابة في الماضي وعنه بما كنت أسمعه عن طقوس الاعتراف للكاهن في الكاثوليكية. كلاهما، في الغالب، يدفع الفرد لتبرئة ساحته أمام نفسه ليبدأ بعدها تجربة جديدة غير فاشلة. بل أعرف وأؤكد اني قابلت بين السطور، وأنا أكتب، أشخاصا كنت أظن أنهم أساؤوا لي لأكتشف أنني لا أحمل لهم ضغائن. الأشخاص أراهم، أثناء الكتابة في الماضي، أقل سوءا والأشياء أقل قبحا. أرى الغضب باردا والكره نادرا.

***

أحب أن أكتب عن تفاصيل ساعتين قضيتهما جالسا على أريكة خشبية أنظر عبر بحيرة إلى سلاسل جبال خضراء وفي يدي مشروبي المفضل وإلى جانبي إنسان يسمع ويرد بنعومة. كلانا احترم جمال المكان فخفض صوته واختار من الكلمات ما لا يزعج ومن موضوعات الحديث ما يروق وما يتناسب مع روعة الموقف. أحب أن أعترف أنني والشخص نفسه اجتمعنا مرة أخرى فوق أريكة خشبية وأمامنا ما يشبه النهر العريض ننظر عبره إلى ناطحات سحاب على الضفة المقابلة. جلست وفي يدي نسخة من مشروبي المفضل وفي الذاكرة مخزون كلمات تريد أن تنفلت نحو الهواء الطلق. لا شيء يعيب المكان. نظيف ومحل عناية واضحة. من حولنا أطفال يلعبون وأمهات مشدودات إلى هواتفهن الذكية ورجال أمن يحرسون. تحدثنا فلم نخفض الصوت ولم ننتبه إلى أهمية أو ضرورة اختيار الكلمات والموضوعات. اختصرنا الجلسة فالمكان لا تتوفر فيه كامل الشروط، أو ربما الإنسان الذي يشاركني الأريكة والمكان واللحظة لم يكن الشخص المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب. المكان جميل ليس بطبيعته ولكن بما أضيفه إليه من مزاجي وعواطفي واستعدادي أن أرى الأشياء جميلة.

***

تعودنا الاستغراق وقت الضيق الجماعي في استرجاع الماضي. نحن إليه في أحاديثنا ونحن إليه في كتاباتنا. يتباهي به كبار السن في حضور الشباب. كلهم، أو بالأحرى غالبيتهم، يبالغون. كثيرون يعتقدون أن في الماضي عاشوا أحلى لحظات العمر. غامروا بركوب الصعاب، فشلوا مرات ونجحوا مرات حين كان الجسد قويا والعزيمة طاغية. عاشوا يحلمون وبعضهم الآن يحكي لأبنائه وأحفاده عن أحلام شبابه وكأنها تحققت. بل راح  منهم من ينبش بحثا عن حلم له لم يتحقق ليحققه في غير مكانه ولا زمانه. يخطئ من يتصور إمكان بعث الماضي. نحن إليه. نكتب عنه. نعيش فيه لحظات. نستعير منه ما نضع فيه بأنفسنا من قيم وأخلاق وسلوكيات. نعيد صنعه أو صياغته في خيالاتنا ونجمله بما نفتقد ثم نعود إلى ما صنعناه نستخلص عظات ودروس.

***

جمعتني مؤخرا جلسة ضمت كبارا وصغارا. اختار أحد  الكبار جدا الماضي موضوعا للحديث. كان متألما وهو يحكي للصغار الموقع الغالي في نفوس الكثيرين الذي  كان يحتله مقهى ومطعم “إيليت” بالإسكندرية بمناسبة صدور قرار إزالته. قال إن كل ما شيدنا من روائع المعمار والهندسة يجري هدمه الآن وما أعطى للإسكندرية سمعتها يجري محوه بالتدريج. بحسب رأي ضيف آخر بشعر أبيض ويسند ذقنه على عصاه كان الكلام  بعيدا عن الدقة والأمانة. استطرد دون أن ينظر إلى أي من الحاضرين، إن ما سمعه قبل لحظات أمام شباب لا يعرف تاريخ بلاده بعيد عن الحقيقة. نحن المصريين لم نجعل من الإسكندرية العروس التي كانت. الحقيقة هي أن خبراء أجانب خططوا للمدينة وأطلقوا على كثير من الأحياء أسماء من اختيارهم. أقاموا المسارح والمعارض ودور السينما. هم والمصريون الذين اختاروا نمط الجاليات الأجنبية في الحياة أعطوا للإسكندرية ما استحقت من تقدير وتبجيل. ساد صمت خشيت من تطوره إلى ما لا يحمد عقباه في زمن يتبادل فيه الناس الاتهام بالخيانة والعمالة كما يتبادلون تحية الصباح. عاد يخاطب الشباب ولكن بلهجة مسالمة قائلا كثيرا ما أرى هذه الأيام  صورا فوتوغرافية عن شوارع في القاهرة الخديوية، وبخاصة الصورة التي تبرز أناقة شارع إبراهيم باشا حيث كان فندق شبرد قبل أن يحرقه مصريون، ويظهر فيه النزلاء وكلهم في الصورة أجانب ومع الصورة  تعليق يشيد بالمصريين صانعي هذه اللوحة المعمارية الراقية، أري تعليقا مماثلا على صورة لعمارات محطة الرمل وكورنيش الإسكندرية. توقف ليسألني معاتبا، لماذا يكذبون على أولادنا وأحفادنا. أيخجلون من قول كلمة حق فيفضلون عليها شهادة زور. لا يا أولادي، الحقيقة هي أن معظم مدننا الحديثة خططها وجملها أقام حدائقها مهندسون أجانب استأجرهم في غالب الأحوال حكام مصريون. أحنيت الرأس وأطرق الشبان رؤوسهم. أحدهم كان قبل وصول الشيخ يحكي قصة قصر فخم وقديم وتاريخي أصدر حكام الحي من المصريين قرار هدمه.

***

لا يضيرني وأنا أكتب عن الماضي  أن أقر بأن حاجتي إلى الخبرة الأجنبية قديمة، وربما عادت تلح. أحب أن يعرف الشباب في عائلتي ودائرة عملي ودوائر الأصدقاء أن الفشل بمرارته وكلفته كان في كثير من الأحوال مصدر قوة وحافزا دفعني لأجرب من جديد. أحب أن يعرف الشباب أن البعض منا تعلم في المدارس الحكومية على أيدي معلمين أجانب، وأن المعلمين المصريين لم  يخفوا عنا في ذلك الوقت إسهامات الأجانب في نهضة مصر الصناعية التي قادها طلعت حرب.

الكتابة في الماضي متعة، وهي أيضا صدق وأمانة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version