طلال سلمان

امن اولا ومع سوريا اولا

بكلمات محددة وقاطعة في وضوحها وحاسمة في دلالاتها، أعاد الرئيس السوري حافظ الأسد إلى الصراع سويته الأصلية، مسقطù أكوام الغبار والأوهام التي أثارتها المناورة الإسرائيلية الأخيرة والتي اختار لها بنيامين نتنياهو عنوانù مثيرù هو »لبنان أولاً«:
»لبنان وسوريا أولاً، ومعù، بخطوات واحدة وبتوقيت واحد«..
فليست المسألة مشكلة أمنية لإسرائيل في لبنان ومع سوريا عبره، وليس حلها أمنيù وبالاتفاق مع سوريا عليه.
تمامù كما أن المسألة في الأرض الفلسطينية المحتلة ليست مشكلة أمنية لإسرائيل ولا يمكن أن يكون حلها أمنيù.
المسألة في فلسطين المحتلة أساسù ومع شعبها، ثم في لبنان ومعه، ثم في سوريا ومعها، سياسية أولاً وثانيù وثالثù وأخيرù، بل هي تتعدى السياسة إلى الوجود ذاته، حاضرù ومستقبلاً وعلى مختلف مكوّنات المجتمعات وأسباب الحياة من الاقتصاد إلى الاجتماع ومن العسكر إلى الأمن ومن التاريخ إلى الجغرافيا وصولاً إلى المكانة والدور في المنطقة وفي العالم.
متى كان احتلال الأرض من طرف جيش أجنبي وطرد أهلها منها وبناء المستوطنات فوقها مشكلة بحت أمنية وحلها يبدأ بالأمن وينتهي به؟!
إن مجرد طرح الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية كمشكلة أمنية (وللاحتلال وحده!!) هو تحقير للعقل العربي، وتزوير فظ للوقائع، ومحاولة استغفال للمجتمع الدولي، تستند إلى الاستقواء بالحاجة الأميركية إلى الصوت الإسرائيلي لتحييد واشنطن وإخراجها من مسؤوليتها المباشرة عن »العملية السلمية« بما هي محاولة جادة لتسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي المفتوح منذ عقود والباقي مفتوحù حتى إشعار آخر..
كان لا بد من رد سياسي مباشر وصريح وقاطع على مناورة نتنياهو لكي يسحب هذا التزوير الفاضح لطبيعة المشكلة من سوق التداول اليومي، لبنانيù وإلى حد ما عربيù، ومن ثم دوليù.
وهي حيلة تقليدية طالما لجأت إليها إسرائيل: تجرّد المسألة من طبيعتها السياسية وتطرحها كمجموعات من الإشكالات الأمنية مع الجوار، تحلها »ترتيبات أمنية« مع كل طرف على حدة، تمامù كعمليات التهريب والتسلل أو الدخول خلسة للعمل والإقامة من دون إجازة عمل أو ترخيص!
يجب أن تغيَّب السياسة لكي تزوّر طبيعة الصراع،
وفي غياب طبيعة الصراع يصير مطلب عودة الضفة الغربية إلى أهاليها مثلاً، أو الجنوب المحتل إلى أهاليه، أو الجولان المحتل إلى دولته السورية، خارج البحث، فالمهم هو سلامة جيش الاحتلال فيه وليس هوية أهله أو حق دولته فيه،
وأبسط ما أكدته الكلمات الحاسمة للرئيس الأسد إعادة التأكيد على طبيعة الصراع، ومن ثم على طبيعة الحل الذي يحاول نتنياهو استبعاده.
لعل الملك حسين يهدأ الآن ويكف عن الترويج لمشروع نتنياهو، ويتوقف عن إسداء النصح إليه في كيفية التعامل مع »العرب الذين لا يعرفهم، والمنطقة التي لم يعش فيها ما يكفي لكي يفهمها«.
فليس سرù أن الملك حسين هو الذي »نصح« نتنياهو بتقديم زيارته للقاهرة على الأردن، وهو قد أوفد إليه رئيس حكومته الكباريتي برسالة حول »آداب الحديث مع الرئيس المصري حسني مبارك«..
وكانت النصيحة تشير على نتنياهو أن يطمئن مصر على دورها »القيادي« في المنطقة، وأن يخاطب الرئيس مبارك بوصفه »مرجعية عربية«، وقد أضاف رئيس حكومة التطرف الإسرائيلي من عندياته تسفيهه لأوهام سلفه شمعون بيريز حول »الشرق الأوسط الجديد« وتخليه عن مزاحمة مصر على الأموال والأسواق العربية، لأن كل ما يريده منها ومن الآخرين علاقة حسن جوار لا أكثر!
المهم أن طائرات نتنياهو الحربية عادت تؤكد، بالنار، على الطبيعة السياسية لهذا الصراع المفتوح.. ولعله قد قصد بالإغارة على بعلبك بالذات إبلاغ دمشق، الوجه الآخر والأصلي لسياسته التي تقدم الأمن على السلام، باعتبار أن الأمن الإسرائيلي مهدد دائمù في حين أن السلام يستطيع أن ينتظر شهورù أو حتى سنوات.
والتوقيت مقصود: فالغارة يجب أن تغطي بدخان حرائقها الاجتماع الأول للجنة مراقبة وقف النار المنبثقة عن »تفاهم نيسان«، لكي يكتمل الاعلان عن استمرار »الحرب الباردة« كبديل عن السلام المرفوض إسرائيليù وعن الحرب الفعلية المستبعد التورط فيها، أقله، في المدى المنظور.
لا بد، إذن، من توفير »شغل« للجنة يبرّر قيامها، ويعطيها دورù في خدمة الأمن الإسرائيلي، فإذا ما تجاوزت المقاومة في لبنان حدود الحرب الباردة جاء الرد على سوريا بمواقعها العسكرية في لبنان..
الحرب الباردة في السياسة تحتاج هي الأخرى إلى قليل من النار..
وها هو نتنياهو يفتتحها من أقرب نقطة لبنانية إلى دمشق…
وهذه هي الدلالة الأصلية لمشروعه المتهاوي: »لبنان أولاً«.

Exit mobile version