طلال سلمان

الواثقون من ثقة غير الموثوقين!

“انس الدنيا وريح بالك” فكل شيء تمام التمام في هذا البلد الأمين الذي ما زال لك فيه مرقد عنزة أو مرقد من غير عنزة، أو عنزة من غير مرقد.

انس الأخبار المزعجة عن الحروب الأهلية المتفجرة دماً وخراباً في المشرق والمغرب، من العراق إلى الجزائر مروراً بالسودان والصومال وجيبوتي، أو تلك الصامتة حتى يعطي “السيد” الأمر بالتفجير.

أقفل المذياع والتلفزيون، وابعد عنك الصحيفة واستمتع بالوفاق الوطني والمناخ الديمقراطي المستشري في بلادك الرائعة التي تنعم بأفياء “الجمهورية الثانية” وكل شيء فيها عال العال.

الرؤساء الثلاثة يلتهمون معاً السمن والعسل، ويصدرون بلاغاً كل ساعة يطمئنوننا فيه إلى أن علاقاتهم هي نتاج ما يأكلون!

والمجلس النيابي يمارس دوره، كحسيب ورقيب ولبيب من الإشارة يفهم، بطرقة فذة.. فبعد التصريحات النارية، ها هي العرائض تتوالى مطالبة بجلسة لمناقشة الحكومة (التي خدعوها فأوهموها أنها فوق المناقشة والحساب…)

وها الحكومة التي ليس أشطر من وزرائها في الحساب تنزل إلى الساحة نزلة عنترة بن شداد العبسي وتجعر: هل من مبارز، هل من مناجز؟! وتلتفت إلى النواب بطرف عينها ولسان حالها يقول: ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أن في هذي الجموع رجالا!! إن كنتم رجالاً فأسقطوني.

هي قضية ثقة، والكل يعرف أنه لا يستحقها ولكن لا مجال لسحبها منه!

لا أحد يثق بأحد، ولا أحد يثق بالآخرين عموماً. لا الرؤساء يثقون واحدهم بالآخرين، ويمكن أن تدورواحدهم على الثلاثة فتحصل على الجواب ذاته. ولا الوزراء يثقون ببعضهم البعض، أما النواب فقد شاخت ذاكرتهم ونسوا معنى كلمة “ثقة”.

برغم ذلك فإن الحكومة “ستنال” الثقة. وهي واثقة من ذلك كل الثقة. والذين لا يثقون سيقولون إنهم يثقون. والواثقون من أنهم لا يستحقون الثقة سينالون الثقة. وسيكررون “ثقة، ثقة، ثقة” كالببغاوات وسيزدادون ثقة بأنفسهم وهم يرون الحكومة أكثر ثقة بنفسها. الكل يعرف أنه ليس مصدر الثقة لا بالآخر ولا بنفسه. ومشكلتهم أن يكونوا “موثوقين”. وطالما أنه لا بديل لهم فهم إذن موضع الثقة بالاضرار. فهل أعظم من هذا مصدر للثقة بالنفس؟!

المشكلة مشكلتك أنت أيها المواطن القلق المقلق، المتعب المتعب. أنت لا تجد من تأتمنه على ثقتك. أنت لا تجد موضعاً لثقتك في البلاد التي تجد فيها المعزة مراقد “على مد عينك والنظر”.

وطالما أن جميع أولي الأمر مرتاحون فأنت لن تعرف الراحة.

وطالما أنهم مطمئنون إلى البقاء في مواقعهم، واثقون من غياب البديل، ومن تعذر البديل لأسباب لا تتصل بمؤهلاتهم ولا برغبتك أو بثقتك فيهم، فعليك أن تجد حلولاً أخرى خارجهم جميعاً.

المهم ألا تصبح طرفاً في اللعبة، ألا تدخل فيها، بأي شكل من الأشكال. المهم ألا تتواطأ على نفسك. المهم ألا تدعهم يسخرون منك ويدعون إنهم إنما يتمتعون بثقتك ويحكمون باسمك.

تفرج والسلام… في انتظار أن تأتي اللحظة التي تستطيع فيها أن تحاسب الجميع، وهي لا بد آتية، مهما أرجأوا موعد الحساب بالانتخاب.

ليكن جهدك كله منصباً على تقريب موعد الحساب مع هؤلاء الشطار في الحساب!

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 15 شباط 1992

Exit mobile version