طلال سلمان

الهوية

ليست الهوية أن نكون ما نحن عليه، وليست الهوية ان نكون كما كان أسلافنا. ما نحن عليه كارثة. وما كانوا عليه صدى للكارثة، اذ ان الحاضر يكتب الماضي. الماضي لا يكتبنا. لا يمكن تقرير مصيرنا على أساس الماضي. كل ما كان في الماضي من انتصارات وامجاد وتقدم علمي وفكري تحول إلى هزائم. ربما لم نكن نحن المسؤولين عن الهزائم، لكننا هزمنا. الهزيمة أننا لا ننتج، نستهلك ما ينتجه الغير لنا، وما ينتج لنا يقرر افكارنا حول الحاضر والماضي. يعيد تشكيل الماضي لنا . التراث الذي نعتز به هو من صنع الغير.

نعيش من دون تراثنا الحقيقي. نحتاج إلى إعادة إنتاجه. لا نستطيع ذلك لاننا لا نستطيع انتاج حاضر ناهيك عن صنع المستقبل. هويتنا هي المستقبل. كيف نصنع المستقبل؟

هويتنا الراهنة أوهام متكدسة من الماضي والحاضر، واوهام مخيفة عن المستقبل. بعد كل الانجازات التاريخية على الاصعدة العسكرية والثقافية، وعلى صعيد المعرفة والتواصل مع العالم، بالاحرى الانخراط بالعالم الذي كنا نحتويه، صرنا جزءاً هامشياً منه ومن عالم يحتوينا ويقرر لنا حاضرنا وماضينا ومستقبلنا. نحن مقطوعو الصلة بالتاريخ. روح التاريخ لا تمت الينا بصلة، لسبب بسيط جداً هو اننا بلا روح. من لا يفعل في هذه الدنيا، ومن لا يترك بصمته على الحاضر، لا تاريخ له ولا مستقبل. نحن ساحة عمليات.

نغرق في التاريخ، لا يجتمع منا اثنان الا ويكون التباهي حول عصر الفتوحات. تاريخنا ليس تاريخنا، نحن لسنا ابناء هذا التريخ. افترضنا انحطاطاً دائماً عبر الف سنة، خرجنا منه في عصر النهضة في القرن التاسع عشر. عصر الانحطاط مقولة خاطئة. لو كنا ابناء عصر الانحطاط لكان لدينا نهوض. نحن ابناء الاوهام حول الامجاد والانحطاطات. نحن ابناء لا شيء.

الاساس في أوهام كل هوية القول أننا “نحن” غير ما عليه “هم”، نحن في مواجهة هم. يمكن ان تكون المواجهة عنفية او سلمية، لكن المهم ان “نحن” تحتاج الى مواصفات لوصفها، والافضل ان تكون المواصفات دائمة وابدية وجوهرية، وكلما كانت كذلك كانت الهوية المتمثلة بنحن أقوى واثبت على مدى التاريخ. النحن القومية او الاثنية او الدينية بحاجة دائماً لكتابة تاريخ للشعب الذي تصنعه من اجل التأبيد والتأزيل. كلما كانت النحن ممتدة من الازل الى الابد كلما كانت أقوى تأثيراً في أذهان اصحابها. غالباً ما يكون التاريخ حشراً للاحداث، اختلاقاً لدواع سياسية بريئة او سيئة النية، لكن عملية اعادة كتابة التاريخ تصبح “بزنس” قائماً بخد ذاته. على العموم ينطبق ذلك على الدولة والامة، الا ان الدولة بدأت في لحظة ما، اما الامة فلا تبدأ ولاتنتهي، لذلك يجب ان تتحول الامة الى دولة او العكس. وذلك من اجل ان تكتسب الدولة صفة الابدية التي لدى الامة.

اذا لم يكن التاريخ صحيحاً فلا بد وان يكون متخفياً. تؤخذ حوادث التاريخ وتعطى تفسيرات موضوعية او تأويلات ذاتية، يضاف اليها ما يعطيها المعنى المراد كي تنغرز في وعي ابنائها. يعاد ترتيب الماضي لكي يتناسب مع الحاضر للتأكيد على ان “نحن” مجتمع تاريخي الدولة فيه قائمة منذ البداية. واذا لم تكن قائمة فاننا نناضل من اجل ذلك، من اجل الانفصال لاستكمال عملية “التحرر الوطني”.

دائماً ما ينظر الى الامة او المجتمع وكأن كلا منهما كائن طبيعي، اما الدولة فهي كائن اصطناعي. بالطبع ما هو اصطناعي اي الدولة، عندما يوغل في القدم يصير طبيعياً . كل المجتمعات والامم قديمة، اما الدول فمنها ما هو قديم ومنها ما هو حديث. لا يؤخذ بالاعتبار ان البشر متساوون في العراقة مهما كان المجتمع الذي ينتمون اليه. في التمييز بين عراقة الجماعات يصير ممكنا التمييز بينها واعتبار بعضها اقل عراقة او تقدماً، او قابلية لذلك. هنا تأخذ العنصرية الدور، تصادره، وتصنف الجماعات الى صفات القابلية والاكثر قابلية والاقل قابلية. وهكذا تظهر العنصرية. قديماً كانت العبودية او الرق تفرضان على المهزومين في الحرب، اما اليوم، ومنذ انتصار الامبريالية وتوسعها الكبير في الربع الاول من القرن 19 فان العبودية او الرق تفرضان لاسباب موضوعية على من يعتبرون اقل قابلية للتقدم واقل قابلية ليكونوا في مصاف الجماعات المتقدمة، اي جماعات البيض الاحرار. ويقع على البيض عبء حمل الاقل قابلية على التقدم. يجب اذن تربية هؤلاء، اي حكمهم وصيانتهم الى درجة يصيرون فيها قابلين للاستقلال وحكم انفسهم، فيكون الانتداب.

هذا النوع من العنصرية يحيل التأخر الى صفات موضوعية لدى الضحايا. لم تعد الاسباب موضوعية مثل لعبة الحرب او السيطرة. تصير هيمنة تعشعش في عقول الحاكمين والمحكومين، في عقول الجلادين والضحايا.

لا بد من التحذير، من الخبث المقصود او غير المقصود، في تعبيري العراقة او السلوك الحضاري. وذلك يعني في الوعي العنصري المضمر ان هناك شعوباً بربرية او حضارية. مما يستدعي معالجتها كي تصير بمستوى من هم اكثر تقدماً. هناك حتى لدى الشعوب المتقدمة.

جماعة لم تبلغ المستوى المطلوب. تمارس عليها شتى انواع التجارب وتتخذ بحقها شتى انواع الاجراءات من اجل تطهيرها مما يظهر عليها من ميل للجريمة او الادمان او الشذوذ لاسباب جينية. الليبرالية اعتبرت الاسباب الجينية يمكن معالجتها بالسجن والعقوبات والملاحقات. حملت النازية هذا المنطق. فاعتبرت ان هؤلاء المصنفين في ادنى السلم الاجتماعي يجب ان يحرقوا او يعدموا. قام الحرق مع الالمان ( في القرن 20)، وهؤلاء من اكثر شعوب الارض تقدما، وما زالت شعوب اخرى تمارس الابادة ضد اعدائها في افريقيا وآسيا. واذا لم يتيسر الحرق او الابادة فان الاقل حضارة وتقدماً يجب ان يحتفظ به لاقذر المهن واقلها دخلاً. هم ولدوا من اجل ذلك، ويجب ان يبقوا كذلك، واذا كان هناك فلتات فلا مانع من رفعها لاعلى المناصب كي يحتفظ النظام بوجه مقبول.

مقابل ذلك هناك العنصرية المضادة، العنصرية الذاتية او التي يفرضها الضخايا على انفسهم. يفترض بعض الشعوب ومنهم نحن، فرضية اننا متخلفون بالسلبية. لا نستحق الحداثة. على غيرنا انقاذنا. لا ندري اننا بالعمل الشاق المضني والسعي الدائم، نحقق في وقت قصير ما حققته الامم الاقوى في عقود او قرون. يتوجب علينا من اجل ذلك التخلي عن الهوية القومية او عن بعضها، من اجل استنساخ تجارب الامم الاخرى، من اجل تبني ثقافة الغرب. وليس في العالم ثقافة حية الا ثقافة الغرب، يحتم ذلك وضع الدين جانباً فردياً بين الفرد والله، وتتحول الممارسة الجماعية الى التنمية والاهتمام بامور الدنيا. اهتمامنا بامور السماء جعلنا نخسر السماء والارض.

ان علومنا، بعدما قامت محاولات لاثبات ان هناك فلسفة واقتصادية وسياسة الخ .. خاصة بنا وتميّزنا عن بقية العالم، علومنا هذه لم تعد تنفع. تمييز انفسنا عن العالم عنصرية مضادة، وهي عنصرية الضعفاء ضد الاقوياء. ما زلنا نناضل ضد الغرب، ولكن لن يكون النضال خقيقياً الا بالنضال السياسي والتقليد الثقافي للغرب، ولتجارب آسيا الشرقية التي استطاعت الانتقال من التخلف الى التقدم في بضعة عقود قليلة.

نعلم ان الهوية لدى شعب ما تتغير وتتعدد لدى الفرد الواحد، كل منا متعدد الهويات في ذاته، هو عربي مسلم او مسيحي او غير عربي كردي او بربري او سرياني. زيادة على الهوية التي تمنحها العائلة ومكان الولادة والمهنة الخ.. حسب الظروف تتخذ كل من الهويات في ذاتنا اولوية على الاخريات. وقد مرت علينا ايام انتقل فيها الكثيرون من هوية عربية الى اخرى اسلامية، او من انتماء ماركسي الى انتماء اسلامي. يعود الكثيرون الآن من هويات أخرى الى الهوية العربية.

كل هوية من الهويات تتغير، واعتناق عمل سياسي ما يتطلب هوية ما. اذا انهارت هذه الهوية يجري الانتقال منها الى اخرى. من كانوا يحملون ايديولوجيا ثورية طبقية يسارية صاروا الآن، او بعضهم، اسلاميين او من اليمين الليبرالي او النيوليبرالي. كثير منا يعتقدون ان الايديولوجيا المرتبطة بهوية ما سوف تنتصر في ايامنا. عندما لا يحدث ذلك ينقلبون عليها.

هناك الكثيرون من العرب الذين اعتبروا القومية العربية نكرة، مجرد فكرة، ولما جرى التحول الى هويات اخرى لدى الناس، تنازل اصحاب الفكرة العربية عنها، فهي مجرد نكرة كان يمكن التخلي عنها، ولم تكن بالنسبة لهم انتماءاً وجودياً منغرزاً فينا ولا يمكن التخلي عنه الا بالتخلي عن انفسنا. لم يأخذ هؤلاء بالاعتبار ان الهويات التي تكون بمثابة انتماء، وجدوى خاصة منها يتعلق بالله. لا يمكن التخلص منها بسهولة. حتى لدى الذين تخلوا عن العروبة لا يمكن ان يناقشوا اوضاعنا القطرية من دون مناقشة اوضاع المنطقة. ثورة 2011 اثبتت ان هذه الشعوب العربية، من المحيط الى المحيط، ما زال نبضها واحدا وآمالها واحدة ووجدانها واحدا، والاهم هو ان حاجاتها واحدة. وبالتالي فان برنامجها السياسي واحد. وهذا ما أخاف المنظومة الحاكمة العربية فشنت الثورة المضادة ضد الشعوب العربية. فكانت هذه الحروب الاهلية خاصة في المشرق العربي نوعاً من الحرب الاهلية بين الانظمة واتباعها.

اهم الهويات هي ما يصنع. لكي نكون شعباً مستقبلياً علينا ان نصنع مستقبلنا بالسعي، بالعمل والانتاج، علينا ان نصنع هويتنا. الهوية التي تصنع هي التي يجب ان تكون لها الاولويات على كل هوية اخرى لدى كل واحد منا، بعد الاستقلال، استقلال بلادنا عن الاستعمار، في اواسط الحمسينات، تبنت الانظمة هدية موروثة، فكانت العروبة او الاسلام، وبعضنا لجأ الى الانعزال القطري.

مشكلتنا الهوياتية الآن هي كيف نبني هوية منخرطة في العالم على اساس الدولة المتاحة. وهي دولة قطرية صنعها بشكل او بآخر الغرب.لا يتنافى ذلك مع الحلم الوحدوي، لكن علينا ان نعلم ان الوحدة العربية ان حصلت فستكون وحدة دول. وحدة الشعوب تحصيل حاصل. علينا تحقيق التقدم بتبني الثقافة الغربية في بناء الدولة التي خلقها الغرب في سايكس بيكو او غيرها والبناء على ذلك. علينا الاخذ بالتقدم وفكرة الدولة كيفما كانت، مع التخلي عن اولوية فكرة الامة. بناء الدولة، دولة قطرية او غيرها، لا يتنافى مع الوحدوية. ان تنغرز الدولة في ضميرنا معناه ان يتكون المواطن. مع تكوّن المواطن تكون السياسة. بالسياسة يكون التقدم. يكون التقدم بالثقافة الغربية انتاجاً واستهلاكاً. لا يكون التقدم الا بالعمل والسعي والانتاج لبناء مجتمعات قوية متماسكة. لا نعرف كيف يكون الفرد وحدوياً ولا تكون المجتمعات والدول وحدوية؟ علينا ان ندرك ذلك ونسعى على اساسه.

الهويات التي تكون معطاة او موروثة تكون ملك من اعطانا او اورثنا اياها. الهوية هي ما نصنع بانفسنا وبارضنا وباقتصادنا وتراثنا .. الهوية غنى بما نرى ونصنع لانفسنا في المستقبل وللمستقبل. هذا اذا اردنا تجاوز الماضي. ولا معنى للتجاوز ان لم يكن انخراطاً في العالم. وهذا يعني تبني ثقافة العالم من دون تمييز حيال أنفسنا وحيال العالم. في الحالتين هناك عنصرية مضادة. عزل انفسنا عن العالم عنصرية ضد انفسنا، خضوع للقوى التي تحكم العالم عن طيب خاطر. كما يعرف المواطن “واجبه” في دولة الاستبداد ويمارس انتماءه الذاتي، فانه يعرف موضعه سلفاً على صعيد العالم ويقرر موقعه في السلم الاجتماعي ويقرر مدى قابليته للحضارة او عدم قابليته. باختصار يمارس الخضوع الذاتي. التبعية الثقافية احد اشكال هذا الخضوع. عندما نتحدث عن التجاوز والانخراط في العالم وتبنى ثقافة الغرب لا يكون ذلك في الاستتباع، بل معناه ان الانخراط يعني التقليد لثقافة الغرب اولا، وتجاوزه ثانياً. نريد امة فاعلة لا مجرد متلقية.

لا ثقافة ثابتة الجوهر او الجواهر في التاريخ. كل ثقافة تتغير في جوهرها واعراضها على مدى السنين. التغير يصيب ادابها، لغتها، طرق عيشها، اقتصادها، بناها الاجتماعية، علاقاتها الخارجية، التغير يصيب كل شيء فيها، يصيب جوهرها. لذلك امتنع علماء الاجتماع والانتروبولوجيا عن استخدام كلمة ثقافة للدلالة على اي شيء.

هذا لا بعني عدم وجود الثقافات. معناها ان الثقافات ليس لها جينات ثقافية تحدد ملامحها الثابتة، كما الجينات البيولوجية في الكائنات الحية. استخدمت الجينات البيولوجية لادعاء امكان توقع سلوك بعض اصناف البشر، ولم ينجح الامر، بل انتهى الى اسوأ اشكال العنصرية. فهل يجوز استخدام الجينات الثقافية لامور مشابهة؟. ان لاستخدامات البيولوجيا وجيناتها ذكريات سيئة في علم الاجتماع.

تتغير الهوية المعلنة داخل كل واحد منا مع التقلبات السياسية والاستراتيجية. كل واحد منا متعدد الهويات. يتبنى واحدة على حساب الاخريات مع التبدلات الجماعية. قليل منا من يبقى على هوية واحدة معلنة. المصالح تتحول من تصورات الى رغبات الى غرائز او ما يشبهها. المصالح ليست دائماً مادية. هي في غالب الاحيان تصورات ورؤى تتغير مع الاحداث. احياناً تمسي التحولات الفردية موجات اجتماعية.

هي تحولات ايديولوجية ـ اجتماعية، تلعب فيها التغيرات الدينية دورا كبيراً. الدين يتحول ويتغير عند جماعة واحدة. واحدة من هذه التحولات تصيب الهوية، وهي ليست بالضرورة دينية. تحاول القومية ان تبقى بمنأى عن الدين، وتحاول ان تصير بمثابة شيء موضوعي. تبقى هذه التعابير ملتبسة. الالتباس يجر الى الغموض والتعمية. الغموض ارتباك ذاتي. التعمية سياسة تفرضها القوى المسيطرة. لذلك لا بد من التطرق الى المسألة القومية في الحلقة القادمة… وذلك قبل ان نستوفي موضوع الهوية حقه؟

تنشر بالتزامن مع الاعمار والاقتصاد

Exit mobile version