طلال سلمان

النظام العالمي وتداعياته الانسانية والعربية ـ السلفية هي الغزو الثقافي

عندما وقف الرئيس ترامب ينوّه بأنه لولا دعم الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية لما بقي النظام أسبوعاً واحداً، فإنه كان يشير الى التبعية، تبعية النظام للولايات المتحدة. من أصول هذه التبعية أن يكون سلفياً في الدين، قمعياً في السياسة، تراثياً في الثقافة، ديكتاتورياً في السلطة، ماضوياً في رؤية التاريخ، عائلياً في ملكية البلد وما يُسمى الثروة. جاء ابن سلمان الى السلطة فألبسوه ثوب الحداثة عن طريق اجراءات تتعلّق بالمرأة وقيادة السيارات والسينما وحضورها. كل ذلك في استمرار الغياب التام للحريات السياسية وقمع كامل لمكونات الشخصية الفردية. بقي النظام في حيز التحليل والتحريم الدينيين. لا مكان فيه للتفكير، وليس هناك من مستحبّ ومكروه ومباح إلا ما يقرّره النظام. التحليل والتحريم يحاصران الفرد. ما بينهما يتركه عرضة لسجية النظام وعشوائيته. ليس الفرد موجوداً في خياراته. هو موجود بما يقرره النظام. الشعب غير موجود إلا لكي يكون للنظام ما يحكمه. معنى ذلك أن يكون الشعب لزقة على جسم هو الحكم. الحاكم الفرد هو الفرد الوحيد في المجتمع. الحاكم وحده هو الموجود فعلاً. عدا ذلك كيانات بشرية هي بالأحرى أوهام. إذا شبّه لهم بأنهم موجودون فعلاً يلاقون مصير الخاشقجي. هو كما قلنا ابن النظام، حريص عليه. ليس معارضاً له ولا موالياً لغيره.

تناقضات النظام بين السلفية والحداثة كثيرة. نفاق سادة النظام المحليين والدوليين لا يستر التناقضات. هناك استعمار حقيقي يديره في الداخل حكم ملكي مستبد، وتحميه كثرة القواعد الأميركية في أنحاء البلاد. ربما فعل خيراً السيّد ترامب حين أعلن جهاراً عن تبعية المملكة لأميركا. لم يقل سوى حقيقة الأمر.

لا معنى للكلام أنه لو حافظت المملكة على استقلالها كان الوضع سيكون أفضل. لا تستطيع المملكة أن تحافظ على سيادتها وتبقي في نفس الوقت على سلفيتها وعلى نظامها القمعي وعلى نفاق الحكام. هذه التبعية أنتجت هذه السلفية وهذا النظام السياسي. لم تكن السبب الأول للسلفية. بل هي رعتها عندما صادفتها ودفعتها للتوسع.

منذ ظهور النفط اختارت المملكة التبعية للاميركيين تحديداً. بدا الأمر واضحاً عند لقاء الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على باخرة في قناة السويس عام 1945. ضرب الأميركيون طوقاً حول المملكة. مهمة الطوق ليست فقط الحماية ضد أخطار الخارج، بل المناعة ضد التحوّل الاجتماعي والسياسي في الداخل. طوق حديدي منع النمو، كما كان الصينيون حتى بداية القرن العشرين يضعون الحذاء الحديدي، بمثابة طوق، حول قدم الفتاة كي لا تكبر قدمها. كانوا يحبون الأقدام الصغيرة. الامبريالية تحب أن يكون أتباعها من ذوي النفوس والعقول الصغيرة. يجب أن يبقى البلد مقيداً بنظامه القمعي كي تبقى النفوس صغيرة، وكي يبقى المجتمع ملغياً، وكي تبقى السياسة معدومة، وكي تبقى الكلمة منفية.

فرقع النظام مع ظهور الحداثة. حتى ولو كانت ثورة من فوق. ليس ذلك لأنّ المجتمع لا يقبل الحداثة، أو لأنّ المجتمع سلفي تقليدي لا يقبل الحداثة، بل لأنّ للحداثة معنى غير معناها عند النظام. معنى الحداثة عند الناس هو أن يكون الفرد مطابقاً لضميره؛ أن يكون ولاؤه لنفسه أولاً لا لنظام أو معتقد؛ أن يكون ولاؤه لتربيته وما نشا عليه من أفكار وبحث وتمحيص وشكّ، وقبول يستند الى العقل والى الضمير، وليس نتيجة أي ضغط خارجي. عندما فتح النظام باب الحداثة، كان يدق أول مسمار في نعشه. نظام يصادر الأرض والناس والمال والدين. لا يستطيع الانسجام مع جملة ممارسات اسمها الحداثة.

اعتراض الناس أساساً على النظام الحاكم هو أنهم يريدون حداثة يصنعونها هم، لا حداثة تصنع لهم. أراد نظام الأمير الصغير حداثة يصنعها هو، يقيّد بها الناس، ويشتري بها الضمائر والنفوس. حاول النظام منع الناس من حداثة كادوا يصلون إليها بتطورهم الطبيعي. صدّر النظام سلفيته المدعومة بالمال الى بقية الأقطار العربية لاجهاض الحداثة فيها ودعم أنظمة الاستبداد والقمع والديكتاتورية؛ وفي نهاية المطاف سلفية تنتج القاعدة وداعش بعد أن أنتجت حرباً أهلية مدمرة في الجزائر في التسعينات.

من علائم الحداثة وجود فرد لا تثقله ارتباطات العائلة والعشيرة والدين والمذهب والقومية؛ فرد في مواجهة السلطة. سلطة دولة تشكّل اطاراً ناظماً للمجتمع. سلطة قائمة على السياسة، متحوّلة الى دولة. كل فرد فيها مواطن؛ دليله الوحيد ضميره. كل ذلك كان ولا يزال ممنوعاً في المملكة. أسيادهم الأميركيون كانوا يعرفون ذلك. أرادوا ذلك للاستفادة منه. أفغانستان بعد الاحتلال السوفياتي كانت احد الأمثلة على ذلك. لعنة الجهاديين من القاعدة وأخواتها وداعش وأخواتها نزلت بالأمة منذ ذلك الحين وانتشرت في المجتمعات حروباً أهلية. ما قبلها كان تحضيراً لذلك. عقل صغير تنتجه أموال النفط. مذهب سلفي ينشره الدين. يملكون مال النفط، وعقلاً صغيراً يُوزّع نتفاً، وعداءً للناس يُوزّع بكميات كبيرة. حروب أهلية بدأت في مكان وانتشرت في كل الأمكنة. كانت جاهزة لمواجهة الناس في الميدان. سلفية تنتج في بلادنا ما تنتجه العنصرية والفاشية في بلدان المركز الامبريالي. الرأسمال المالي يُهرّب الى ملاجئ آمنة خارج البلاد. الأجور تنخفض. الأزمة المالية تكاد تتكرر. المستفيدون منها يكادون يجهزون بواسطتها على ما تبقى من ثروة وعقل لدى جماهير العامة. بشرية تسير نحو النهاية بخطى وئيدة. تسير برضاها. تظن أن ما تعتقده هو من صنع عقلها، ولا تدري أن ما تعتقده أيديولوجياً وضعته البورجوازية العليا (أقل من 1% من الناس على الكرة الأرضية)، وأدخلته في عقلها كالإبرة في جسم المريض.

السلفية الإسلامية لا تختلف في أسسها النظرية عن باقي السلفيات الإثنية والعنصرية والفاشية. كل منها يستند الى نظرية الأصل. سواءً كان الأصل بيولوجياً (في الإثنية)، أو لون البشرة (في العنصرية)، أو الجينات الاجتماعية (في الفاشية)، أو الجينات الدينية (عند السلف الصالح). تقدم تكنولوجي أحرزته البشرية، وتأخّر ذهني ايديولوجي أنتجته الرأسمالية. لم ينته عصر الايديولوجيا. الرأسمالية تعرف أي ايديولوجيا تستخدم. قسم كبير من المثقفين يعتبرون هذه الايديولوجيا علماً. مثال على ذلك هو الخصخصة. مفهوم واحد يستهين بشأن الدولة. يعتبر المجتمع قطيعاً ويرى الربح مثلاً أعلى. يجد في المال السعادة الكبرى. يجد الديمقراطية إزعاجاً لا بدّ منه. ما الدين والعسكرة إلا نوعين من أنواع الخصخصة؛ في الدين لوضع الأمر بيد الدعاة، وفي العسكرة لوضع الأمر بيد المرتزقة. كل منهما يرفع الناس بالقتل والإيمان الى السماء بسعر تحدده السوق الرأسمالية.

كانت العيون حول العالم تعلم وترى ما يجري في السعودية. شجعت ذلك على مدى العقود في وجه شعوب المنطقة. رأت بأم العين كيف تنتشر السلفية من الجزيرة العربية، ومعها الاستبداد، في شتى المجتمعات الإسلامية من أندونيسيا الى المغرب. ما كانت تراه كانت تسعى إليه. تصدير الصناعات الى بلدان فقيرة من أجل رخص الأيدي العاملة وضرب النقابات في هذه البلدان الفقيرة. تصدير الدين السلفي ضرب المجتمعات الإسلامية. لكن الدين السلفي غير الإسلامي ضرب في مجتمعات أخرى حول العالم. ضاع محللو النظام العالمي. رأوا عولمة المال ولم يروا عولمة السلفية. كل ذلك مع منع عولمة الحركة البشرية عبر الحدود. نحن أمام هدم أساس بنيت عليه البشرية منذ بدايتها وهي الهجرة. الهجرة من كل مكان الى كل مكان؛ ما يمنع أن يكون هناك أصل نقي أو غير نقي لأية جماعة بشرية. ذلك معناه أن نظرية الأصل لأي جماعة خرافة. الخرافة هي الأداة الكبرى الايديولوجية بيد أرباب النظام العالمي الذي رعى نظرية الأصول، والسلفية الدينية في بلادنا. ونظن أننا بالدين وبالتقوقع داخله نحمي أنفسنا من العالم؛ ولا نعلم أن هذا هو ما يريده وما يخطط له النظام العالمي. المهم أننا لا ندرك أننا أداوات؛ أدوات بديننا وتراثنا وثقافتنا وطريقة عيشنا اليومية، وبإنتاجنا المعدوم واستهلاكنا البذخ. هي ليست عولمة قائمة على استخدام منتجات العقل والعمل؛ هي عودة الى الخرافة. خرافات الأصل تسيطر على الأذهان. المهم أن يبقى كل في مكانه كي تستطيع البورجوازية العالمية أن تخطط للعالم مصيره.

الهجرة بحث عن المصير. السلفية تعلّق بالأصل وبمكان الأصل، سواء كان أصلاً أو مرتعاً . يمنع عليك البحث في مصيرك. البحث في المصير يمكن أن يؤدي الى محاولة تقرير المصير. معنى ذلك أن يصير لك إرادة (تقرير مصير). أُسّس النظام على أن لا يكون لك مصير (تقرره أو لا تقرره). أنت صاحب أصل وحسب. الأصل يقرره الباحثون. معظمهم مدفوع الأجر. الأصل هو أنت. أنت هو الأصل. تكتمل حلقة السلفية؛ وهي ما كانت ليصبح لها هذا القبول لدى الجماعات الشعبية لولا البحوث التي أجراها الباحثون، ونشرها المثقفون، وأصرّ عليها أهل السلطة. الأصل فقط هو الذي يقررك. أما أن يكون لك خيار في تقرير المصير فهذا ممنوع. أعيد إحياء البيولوجيا عن طريق علم الجينات. هي التي وجودها في خلايا الجسم يقرر وجود الإنسان. لكن الجينات كبيرة العدد. فعلى الجسد أن يختار منها حسب البيئة. حاول علم اليوجينيك (أساس العنصرية) تجديد مساره ولم يفلح. علم الجينات أساس للديمقراطية وليس للديكتاتورية، رغم علاقته المشبوهة بالعنصرية. علاقة لا أساس لها في العلم.

لكن ما نبحث بشأنه هو مملكة تدور حولها الجزيرة العربية، تصادر كمية كبيرة من الأرض وما فوقها وما تحتها، وتدّعي أنها حامية دار الإسلام. ما فوق الأرض هي السماء، حيث الله كما نتخيّل حقيقة، أو في كل مكان كما هو الأحق. وما تحت الأرض: ركاز هو ملك للأمة. الركاز هو النفط. لكي لا تملكه الأمة، كان يتوجّب تدمير الأمة. وهذا ما حصل ويحصل.

التبعية جعلت كل ذلك ممكناً. مملكة محمية بالتبعية. شروط الحماية فرض الحصار على المجتمع وجعله يتقوقع ضمن بضع مقولات من الحلال والحرام، ويخضع لمقدس يكون وسيلة للجهل المقدس. تبنوا شعار الأخوان المسلمين “الإسلام هو الحل”. جعلوا الشريعة دستور البلاد. منعوا الدستور الوضعي الذي يشارك في وضعه الناس. ليس في القرآن حل لكل القضايا التي يواجهها المجتمع. عملياً لم تكن حلولا مفكّرا فيها تتناسب مع الشريعة ولو خالفت بعض التفاصيل غير المهمة. منع الناس من ممارسة أي جديد كي لا يشتغل العقل في التفكير والفهم. وُضِعَ حصار حول المجتمع لعقود من السنين. بُني حول النظام وفتات واردات النفط جدار ايديولوجي منيع. تسربت هذه الايديولوجيا مع مال النفط الى بلدان عربية كثيرة. نشر مال النفط البارادايم الديني السلفي. الاستخدام الذي أنتج الكوارث كان في أفغانستان ضد السوفيات، بتوجيه ودعم من الأميركيين وتجنيد الالاف من المقاتلين العرب المتطوعين. أحرز هؤلاء نصراً. أدى ذلك الى نشوة لدى المقاتلين. تشكّل ما يسمى “الأفغان العرب”. عاد هؤلاء الى بلادهم. وأنتجوا حروباً أهلية عديدة. وعندما حدثت ثورة 2011 كان هؤلاء أداة الثورة المضادة. صارت السلفية ذات أنياب. صارت أداة لضبط المجتمع لا بالاقناع بل بالرقابة على المجتمع خاصة على المثقفين. كم من واحد سُجِنَ بطلب من السلفية. فريق صغير (أو كبير) في المجتمع المصري مثلاً يدمر الجو الثقافي، ويدمر الحريات، ويعمل بتوجيه من العسكر وأجهزة القمع. وهذه تتلقى الفكر المطلوب مع المساعدات السندية والتدريبات. أما من بقي من “المجاهدين الأفغان” فقد لوحقوا بحجة الحرب العالمية على الإرهاب. صاروا أعداء الدولة السعودية والمصرية ومن على شاكلتهما. في بلدان مثل سوريا صاروا أداة تركيا. وهكذا دواليك… رفعت أنظمة الاستبداد العربي لواء الحداثة المفتعلة بوجه هؤلاء. صارت الأنظمة العربية بسحر ساحر قبلة الحداثة لدى الغرب. باسم الهجوم عليهم صار الهجوم على المجتمعات العربية. شارك في هذا الهجوم أعداء الأمس. ما كان سلفية سعودية صار سلفية عربية للايجار مع او ضد كل نظام عربي. كانت اللعبة أن يصيرهؤلاء، بالأحرى الجو السلفي الذي نشروه، ايديولوجيا المجتمع العربي. بقدرة قادر صار الاستبداد حليف الحداثة والمجتمع حليف التخلّف من دون استناد للواقع.

السلفية هي الغزو الثقافي الغربي. هي النتيجة الثقافية للتبعية للغرب. ليست السلفية بشكلها الحالي وليدة هذا المجتمع. هي وليدة التبعية للغرب. ما كانت ممكنة لولا هذه التبعية. هي جزء من هذا العالم الذي تنتشر فيه الأصوليات وجرائم البغضاء الناتجة عن فاشية جديدة. هي التلوين المحلي لظاهرة.

تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق

 

Exit mobile version