تتناقض الدولة مع حرية الهجرة. يفترض بالدولة أن تكون سجلاً للمواطنين، وأن يكونوا أحراراً في حركتهم. فيختارون الإقامة والمواطنة في هذا البلد أو ذاك. يصنف كل إنسان في العالم على أساس مكان ولادته. تصير جنسيته تابعة للأرض التي ولد عليها. غالباً ما يولد الناس في بلدهم لا في بلدان أخرى. كما يكون الدين الذي يولد عليه الانسان لا خيار فيه. حرية الإنسان أن يتوه في لبلاد والأرض، وأن يختار منها ما يناسبه للسكن والمواطنة. لكن الأمر ممنوع. حرية الانسان أن يختار المعتقد وأن يبحث ويحلل ليقرر الدين الأنسب له. لكن الأمر ممنوع. منذ أن يولد الانسان هو مقيّد بالدين والمكان.
تثبيت المكان في الدين مطابق لتثبيت المكان في الدولة. أنت ابن الدين المخصص لك، وأنت ابن المكان المخصص لك. معنى الليبرالية أن تعتقد كما تشاء، وأن تفكّر بما تشاء، وأن تعارض من تشاء، وأن تكون حراً في شتم من تشاء: شرط ذلك كله أن تبقى حيث يراد لك: حيث لا تشاء؛ وأن تؤمن بما يراد لك، أي أن تؤمن بما شاء آخرون من أجلك. الدين وقومية المكان أصلهما أن تكون كما أنت، وأنت كما أريد لك. تحديد موضعك يقرر سلفاً. إذا شئت غير ذلك عندما تكبر وتمتلئ نفسك بالشكوك والظنون، أنت معرض لحدّ الردّة. جوهر اللعبة أن تكون كما يراد لك أن تكون. جوهر اللعبة أن لا تكون كما تريد أن تكون. على كل حال، “كما تريد أن تكون” مقولة تحللت في داخل التراث والثقافة والطائفة والقومية. وربما كنت جاسوساً أو عميلاً متهماً. يتساوى في ذلك أهل التراث والجواسيس. أنت جاسوس للعدو، وأنت جاسوس للتراث. ذلك عدو، وهذا أساس وجودك. ماذا تفعل عندما تجد أن التراث في جزء كبير منه مصنوع لك. هو أنت الذي لا تدري. الجاسوس هو أنت الذي تدري. الحد بين الإثنين ليس محققي الأجهزة. وأكثرهم جهلة لدرجة الأمية. بل هو الفارق بين أن تكون أميناً لتاريخك وتراثك وانسانيتك، وأن تكون مرهوناً عند أعداء كل من هذه. ماذا تفعل عندما يتبنى هؤلاء الصهاينة كلّاً من هذه؟ ليس أحب للصهاينة من أن يكونوا عرباً ضد العروبة، ولبنانيين ضد اللبنانية، ومصريين ضد المصرية. هم مع كل “ية” خالية من “الصهيون”.
تثبيت المكان والمعتقد ضرورة إنسانية، لكنها ضرورة رأسمالية أيضاً. يصعب اقتطاع الفوائض الاقتصادية، خاصة الزراعية، إذا لم يكن الإنسان مثبتاً. ويصعب إقناع الناس إذا لم يكن الدين جاهزاً للإقناع. يتعلم الانسان في المدرسة وفي الخدمة العسكرية وفي السجن أساليب الخضوع. الخضوع ضروري كي تمارس السلطة هيمنتها أو سلطتها.كل منهما يتطلّب نوعاً من الخضوع والقبول بالأمر الواقع. إماتة روح الانسان، إماتة المقاومة ضرورية من أجل انتظام الأمور. أنتم خلقتم من أجل أن تعبدوا. أعطوا ما لقيصر كي تعطوا ما لله. ما لقيصر هو الفائض. ما لله هو اقتسام ما بقي لكم لسد الرمق. تتقاسمونه مع مندوبي الله على الأرض. حقهما عليك منذ أن تولد، الله وسيّد الأرض. واجبك هو الصلاة ودفع الدين. الدين هو الضريبة التي تُدفع للسيد. هي الفائض الاقتصادي الذي تنتجه، ويعتبر صاحب الأرض ملكه. تسدد الدين لأن ولادتك هي عقد الدين بين من ولدك وصاحب الأرض. سيّد الأرض يسترد دينه الذي ترتب عليك بفعل الولادة. فعل الولادة يحتّم عليك العبادة وسد الدين الذي تعرفه جيداً، وهو كل ما يفيض عن حاجتك لسد الرمق. الكساء ضروري شرط أن يبقى مقيداً بالحد الأدنى. ضرورة الكساء نابعة من ضرورة أن يقي الإنسان نفسه من عوامل الطبيعة. لكن التستر، أكثر مما تطلبه عوامل الطبيعة، أمر ضروري. هو أمر يتطلبه الدين. عن طريق الحلال والحرام يقرر لك كيفية استخدام جسدك. لا يستقيم الدين من دون الحلال والحرام. يبقى ما بينهما من المستحب والمكروه والمستباح. ويضيق مجال عمل هؤلاء الثلاثة ليوسع مجال الحلال والحرام كي يحكِّم السيطرة عليك. لا يمكن إحكام السيطرة من دون أن يعشعش الدين في عقلك وروحك ويقرر كيف يكسو جسمك. بذلك يجري تعليبك من أجل أن تصبح صالحاً في قيودك لملاقاة رب السماء ورب الأرض. الواحد منهما ينوب عن الأخر.
قيود الحلال والحرام التي استخدمها الدين، استعملتها القومية تحت مسميات الخيانة الوطنية وأنظمة الاستبداد، وتحت راية الكفر والإيمان في بلدان السلفية. المحتوى هو ذاته: تقييد المواطن العربي في ثنائية، طرفها الأول مقبول لدى السلطة، وطرفها الثاني مرفوض لديها: في غالب الأحيان يعرّض صاحبه للسجن والتعذيب. جميع ايديولوجيات القومية والدين والاستبداد صبت في عبادة الفرد الطاغية والديكتاتور الحاكم، الذي لا يحكم وحسب، بل يقرر أفكار المجتمع وسيرورته السياسية.
كان ضرورياً ضبط الناس من أجل ذلك. كانت سجلات الدولة والدين تقرر من أنت وكيف يمكن أن تتصرف وكيف يمكن أن تفكر. وكان الضبط وسيلة للقمع. من يخرج على الضوابط يحاكم. أوجدت قوانين في بلدان عربية تمنع إهانة الشعور الديني أو الشعور القومي. في بعض البلدان مُنعت وسائل الإعلام من انتقاد طغاة بلدان عربية أخرى. القمع ذاته. لم يعد منافياً للقانون. صار جزءا من القانون ومن الدولة المعاصرة. معاصرة لا يعني أنها صارت حديثة.
جاءت الهجرة احتجاجاً على ذلك. كانت الهجرة في مختلف مراحل التاريخ البشري وسيلة عيش، يوم كانت الحدود مفتوحة. وما كان يقرر هويتك طريقة لباسك وطعامك واستخدامك للأدوات. مع الضبط في عالمنا المعاصر، صارت الهوية المفترضة تقرر لك كل ذلك. الكوفية والعقال شعار العروبة. الأرجح أنها عروبة لم يعد الانتماء إليها سياسياً بقدر ما هو اجتماعي (تراثي).
الأخطر هو الهجرة الى خارج البلاد. انها صفعة بوجه نظام الضبط والقمع. هي رفض للأسس التي قام عليها النظام. هي رفض للنظام بكليته. الرفض في الداخل يحدث في ميدان التحرير. يحدث في أوقات محددة. الرفض بالهجرة يحدث يومياً وبشكل متواصل. الهجرة افترضها القادمون إليها خطراً، واعتبرها حاكمو البلاد الخارجون منها شكلاً من أشكال الاعتراض على العيش في هذه البلدان. بلدان المركز حيث الهجرة إليها تستطيع استيعاب أعداد المهاجرين الوافدين إليها. البلدان التي خرجت منها الهجرة تتعرّض لمن يتهمها بأنها غير صالحة للسكن. الفاشيون الغربيون وجدوا ضالتهم في الغريب الوافد الذي يهدد أسلوب عيشهم. البلدان التي يخرج منها المهاجرون وجدت نفسها مفضوحة: هي لا تستطيع بعد عقود على الاستقلال استيعاب شعوبها وتقديم أدنى متطلبات العيش لهم. المهاجر وجوده يدين النظام الذي خرج منه والنظام الذي أزمع القدوم إليه. المهاجر يدين نظام العالم. يدين العالم العلوي والعالم السفلي، يدين العالم المتقدم والعالم المتأخر. العالمان لا يريدانه، ويرفضانه، ولا يرتاحان لوجوده. المهاجر هو رمز الإنسان الضارب في التاريخ الذي كانت الهجرة بالنسبة له أمراً طبيعياً. ضبط الدين وضبط الدولة اللذان يقيدانه بالدين الذي وُلِد عليه والأرض التي ولد عليها يقودان الى السيطرة عليه. ما زال المهاجر صدى للقرون الماضية. لم تستطع الحداثة أن تستوعبه.
المهاجر في عرض البحر أو الصحراء هو مثل “البدون”. يوجد هؤلاء في بلدان عربية وفي الهند وربما في بلدان أخرى. مقيمون من أبناء البلد لكن لا أوراق لديهم تشير الى أنهم مواطنون. هم مقبولون بلا شرعية. (لا أوراق لديهم تثبت ذلك). وهم غير مقيدين كمواطنين لأنهم فاقدو الشرعية. كيف تكسب الدولة الشرعية من دون رضى شعبها، ومن بينهم هؤلاء؟ المهاجرون مهما كانت الأوراق التي يحملونها، أو لا يحملونها، هم أيضاّ بين هذا وذاك. هم فاقدو شرعية الإقامة في بلدهم، وهم على الأرجح سيصيرون شبه فاقدي الشرعية في البلدان الآتين إليها، أو المزمعين المجيء إليها، إذا سمحت الظروف.
لا يستطيع الكثيرون، ومعظمهم من دعاة الدولة القومية، الاقتناع بأن الهجرة بمختلف أنواعها، القسرية والاختيارية، الجماعية والفردية، أساسية في تكوين المجتمعات على مدى التاريخ. ما يميّز الجماعات أنها مختلطة متعددة، وأن التعدد إن حصل فهو أمر تفرضه السلطة. نعرف معنى التعددية لكن لا نعرف معنى التجانس. كل ما يشكّل عضواً حياً لا يشبه عضواً آخر حتى في نفس الجسد. فكيف البشر؟ الفروقات بين الفرد والآخر، بين الجماعة وأخرى، تهدد مفهومية الشعب. الشعب ليس متجانساً. هو مقولة تفرضها السلطة، أو يفترضها الذين يريدون أن تتشكّل السلطة وأن تتحوّل من نظام الى دولة. مفاهيم الشعب والأمة والوطن لا لزوم لها إلا في ملء الفراغات في بعض الأشعار من أجل ضبط الوزن والقافية. ما عليه كل منا هو ليس بسبب ولادته في أرض وطن، أو في أمة. ما هو عليه كل فرد منا هو السياسة التي يمارسها في الجماعة والمكان اللذين هو فيهما. نقول السياسة لأنها نقيض القسر. من دواعي تواضع سلطتنا اقتناع أولي الأمر فيها أن الشعب (الأمة وما يشابهها) لا يطابق المجتمع، وأن الحاكم لا يطابق الشعب. على كل هؤلاء التعرّف على بعضهم. يكون ذلك بالسياسة والحوار بين الناس، والسعي للاتفاق بينهم.
ولأن الهجرة من مصادر مختلفة عادة سبب الاختلاف الداخلي في كل مجتمع، فإن السلطة أو الدولة تفرضان التشابه والانسجام بين أعضاء المجتمع. الإكثار من فرض الانسجام على أفراد المجتمع يؤدي الى القمع والقسر والإكراه. الاتجاه للقمع يشتد في زمن الليبرالية: الأشكال المتبعة فاشية؛ يبرز الأمر في الانتخابات النيابية في مختلف البلدان على مدى الكرة الأرضية. الخوف من الآخر هو الخوف من المختلف. يُفترض المختلف خارج المجتمع، ويفترض المجتمع متجانساً. وكل ذلك هراء. يمارس العنف ضد سكان البلد وضد الوافدين في سبيل المقولة القائلة بالانسجام والوحدة بين أطراف المجتمع. يميل الكثيرون الى افتراض أن النيوليبرالية اتجاه في الاقتصاد، في حين أنها تشعبت لتشمل جميع نواحي المجتمع. تسربت من الاقتصاد لتشكيل الموقف من الدولة والمجتمع. ورثت النيوليبرالية مقولة الشعب وحق تقرير المصير. لكل شعب حق تقرير المصير. لكن ما هو الشعب؟ سكان المدن أم سكان هذه الجبال أو سكان هذا السهل: هل فيهم من لا يلبس ويأكل كما الأكثرية؟ وما هي الأكثرية؟ أكثرية الدين أو المذهب أو الإثنية؟ هل ان ما تفعله أقلية أو أكثرية مسؤول عنه كل من هو بحكم الانتماء، وحسب الأوراق التي تثبت هويته؟ هل المسؤولية جماعية؟ ألا يوجد في هذا الاعتبار عنصرية؟ المسؤولية فردية في الليبرالية، جماعية في العنصرية. هي كما يشاء المحاور في النقاش بين من يسمون أنفسهم “أقلية” ومن يسمون أنفسهم “أكثرية”. لنتذكر أن الدولة التي تصدر أوراق الهوية للمواطن هي التي تقرر من الأكثرية ومن الأقلية. الناس وهوياتهم نتاج هذا التعيين الذي تقرره السلطة، بالأحرى البيروقراطية في تمثيلها للسلطة.
ألا يستحق المهاجرون الذين يهيمون بين بلد المنشأ وبلد الوصول أن يعاملوا كبشر تتقدم صفتهم البشرية على كل هوية معطاة لهم؟ ألا يستحق هؤلاء الاعتبار كبشر أولاً وفوق كل اعتبار؟ هناك تناقض بين إنسانية البشري وكون هويته معطاة في الدين، وفي أرض الدولة. الحل ليس دائماً لصالح الإنسانية. على الدول أن تفكّر في وسائل أخرى للخلاص من اعتبار المهاجرين كغرباء في بلدان الوصول أو مارقين في بلدان المنشأ. الكرة الأرضية تتسع لكل البشر ولأضعاف أعدادهم الحالية، وعلى السلطات أن تفكّر في ذلك.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق