طلال سلمان

النظام العالمي الجديد وتداعياته العربية والإنسانية ـ تخثّر الثقافة

تتخثّر الثقافة، تذبل، تتراجع. يتلاشى الابداع لدى ثقافة فقدت محفزاتها وأغلق عقل أصحابها. شعار “الإسلام هو الحل” ينفي الإبداع والاجتهاد والتجديد. تقول لك السلفية إن العيش كما سبقونا بألف عام هو النموذج الأفضل. التاريخ بنظرهم ماض لا يتطوّر. يقول الطاغية أنا أفكر عن الناس. على الناس أن يكرروا ما يقول الطاغية. يقول أصحاب الثروة لا جاه ولا معنى للحياة إلا بالمال: ما يعتمل داخل نفسك لا قيمة له. عليك أن تؤجر ضميرك للغير. لا تعمل حسب ضميرك. تتفق النخب على أن الدين أصل الأخلاق لا نقيضها. يغفلون أن الدين أيضاً يفرغك من الحياة الروحية: يصاب ضميرك باليباس، تفكر وتنظر بضمير مستعار. ضميرك عملة غير مقبولة. صاحب الضمير أضحوكة اجتماعية، يفوّت الفرص على نفسه. غشيم لا يعرف كيف يستفيد. نخب ثقافية تم توظيفها عن طريق الجامعات ووسائل الإعلام. نخب سياسية تحت المراقبة الدائمة؛ لا تستطيع النطق إلا كما يراد منها. نخب ثقافية تردد كلام النيوليبرالية. نخب مالية تعرف أن لا تراكم للثروة إلا بالاحتيال والنصب. نخب عسكرية توضع في خدمة الطاغية. تدافع عن الطاغية لا عن المجتمع. الطاغية مستبد لا همّ له إلا عائلته. الحزب في خدمة العائلة. القضية غائبة أو مغيبة.

المجتمع العام، الساحة العامة، أناس يمشون، يروحون ويجيئون. حركاتهم تجعلك تعتقد أنك في ديزني لاند. كل ما يقال تلقين مسبق. لا حوار، لا نقاش. السياسة محكومة بالإعدام. وقد نُفِذَ حكم الإعدام بها. الاستبداد علّقها على حبل المشنقة. تتدلى أمامنا جثة هامدة.

الثقافة الموروثة جثة هامدة. ليست خزّاناً فكرياً ندخل إليه ونخرج منه مع حقّنا بالتجاوز. تجاوز الموروث كي يكون الماضي تطوراً أي تاريخياً. في جلساتنا العامة، نتداول أخبار الفتوحات كي نعتز بها. أمجادنا مضت. حاضرنا ذل لا يستحق الحديث فيه، بالأحرى المراقبة تجعل الحديث فيه ممنوعاً لأنه مراقب. اختصرت الثقافة الى الدين. والدين تجمّد عن طريق الأصولية والسلفية. العلم الحديث مجرد تكنولوجيا يجيدها السلفيون أكثر من العلمانيين. يأتي وقت الثورة، يتصادم أصحاب الدين مع أصحاب السلطة، أو نتخيّل ذلك. ولا نعرف أنهما حليفان في تصليب العقل وتخثير التراث.

تذهب الى الأعراس التي تحاول أن تكون شعبية. طبل بلا زمر.تفقد شهيتك للدبكة. العرس يعرض صور المحتفى بهما. الحضور متفرجون. الطبل ايقاع. ايقاع السلطة هو الأساس. يرقص الجميع على ايقاع السلطة. يفترضون أنهم يتمتعون. المتعة حركات تشبه الدبكة. ليس فيها انفعال. احتفالات خالية من الروح. الزمر روح الإيقاع، وهذا ممنوع. الموسيقى، خاصة الشعبية، تتماشى مع الاستبداد السياسي. تمتّع بلا لذة. طبل بلا زمر. ايقاع من دون نغم. كلام من دون محتوى. الاستبداد إيقاع؛ إيقاع السلطة. مسموح لك أن تتمتّع. ممنوع عليك أن يكون في المتعة روح.

تُبعث الحياة في الثقافة الموروثة بالتجاوز والانخراط في العالم؛ تجاوز هذه الثقافة بعد البناء عليها؛ والانخراط في العالم يحتّم علينا تبني الثقافة العالمية. وهي ثقافة غربية. لكن الكثيرين منا يرفعون بكل سذاجة شعاراً يشبه التفكير السلفي برفض الغزو الثقافي. يفتشون عن نموذج للعيش يمارسونه. السلفيون يقولون بخط عيش السلف الصالح الذي تم تجاوزه منذ مئات السنين. ولا يوجد إلا في مخيلتنا وأوهامنا. والمناضلون ضد العولمة من يساريين وقوميين وغير ذلك، الذين يقولون برفض العولمة، واشتقاقاً من ذلك رفض الثقافة الغربية. استحالة أخرى يطلبونها. يرفضون الاعتراف أن الحداثة جوهر الثقافة الغربية، وأنّ الحداثة نمارسها في حياتنا اليومية، شئنا أم أبينا، وأنها حداثة مصنوعة لنا مع سلع الاستهلاك التي نستهلكها. وهي سلع مادية وذهنية. نعيش في العالم. نمارس حداثته. إما نصنع الحداثة بما يناسبنا أو تُصنع لنا. عندما نصنع حداثتنا، يتطلّب الأمر تغيير أو تعديل البنى الذهنية الموروثة في القانون والسياسة الاجتماعية والبنية الاقتصادية. ولا نستطيع مقاربة هذه الأمور بما يجدي وينفع إلا بأن يكون التبنّي كاملاً من دون مواربة وانتقائية. الحكم على أنفسنا بالعزلة كما يفعل السلفيون هو نوع من العنصرية المضادة. نمارس الثقافة الغربية (أساليب العيش الغربية). ونرسل أولادنا القادرين للتعلّم في جامعاتهم، ونقول بالعزلة ونرفض الغزو الثقافي. هذا تناقض هو في أساس هزائمنا وتراجعاتنا. لم يعد الأمر خسارة معركة هنا أو هناك، بل خسارة الأمة بكاملها. هذه الحروب الأهلية التي يمارسها العرب ضد بعضهم. أليست حروباً بأسلحة مستوردة؟ وأساليب قتال مستوردة؟ يلبس رجال الجزيرة العربية الفستان (طبعاً باللون الأبيض للدلالة على رفض العمل اليدوي والتأكد من عدم الاتساخ) في الحياة اليومية؛ ويلبسون الثياب العسكرية في القتال. ألا يعني ذلك شرخاً في ذهنيتهم وتناقضاً في حياتهم وانفصاماً في شخصيتهم.

ما يجري هو تدمير التراث يومياً ومع ذلك نغلق أعيننا ونغلق عقلنا وندّعي الحفاظ على التراث في حين نراه يتلاشى يومياً. ندّعي التراث وندمّر اليمن الذي يشبه متحفاً للتاريخ وما قبل التاريخ العربي. ندّعي التراث ونكره التاريخ. نعيش في الحاضر أتباعاً أذلاء وندّعي أننا نحاكي السلف الصالح (عند دعاة الدين السياسي، كما عند القوميين العرب واليساريين). لا يرتدي اليابانيون أو الماليزيون أو الكوريون ثياباً تقليدية إلا في المناسبات. نحن نرتديها في الشؤون اليومية. أين نحن مما هم عليه؟ قرارهم بتقليد الغرب والأخذ بثقافته هو جزء من نهوضهم. مع اللباس الغربي أخذوا بأساليب العمل الغربية. مع لباسنا التقليدي نرفض أساليب العمل الغربية، ونصير كما صرنا؛ مجتمعنا غير منتج. وتتوالى الهزائم العسكرية والتراجعات الاقتصادية؛ ويتعمّق انفصام الشخصية؛ ويزدهر الاستبداد.

لا يقلّ عن ذلك فداحة أنّ فهم التراث يستدعي الوقوف خارجه. لا يمكن النقد من أجل التجاوز والانخراط بالعالم إلا بالوقوف خارج التراث. لا يستوي فهم التراث من دون التعرّض له بالنقد. لا يستمر التراث بشكل صحي وسليم إلا بالوقوف خارجه ونقده. لنضعه في متحف التاريخ. نقول متحف التاريخ لا متحف الماضي. ان نعيش التاريخ يعني أننا نعيش التطور. نصنع التطوّر، نمارس إرادتنا، نصمد أمام الغرب سياسياً، نصمد أمام أنظمتنا الاستبدادية في موقف يؤدي الى سقوطها.

الاستبداد السياسي تحوّل الى استبداد ثقافي. والاستبداد الثقافي تحوّل الى جمود الرؤية وانفصام في الشخصية. لنتذكر أن عصر النهضة في القرن التاسع عشر كان عصر من أعادوا الصياغة الثقافية بالقياس مع الغرب. سافروا الى الغرب طلاباً وسواحاً وباحثين عن نقاشات مع أعلام الغرب.. المقارنة مع الغرب أدّت الى الاستنتاج لديهم أنّ عندهم إسلاما من دون مسلمين، ليأتي من بعدهم السلفيون ليقولوا إن لدينا مسلمين من دون إسلام. مثقفو القرن التاسع عشر لم يتخلوا عن دينهم ولم يتخلوا عن الناس. سلفيو القرن العشرين تخلوا عن المسلمين أي عن الناس، وجرفوا الدين في طريقهم. قال لي أحد أحد كبار المشايخ اللبنانيين: الدين فطرة. أقول إذا كان الأمر كذلك فلا خوف عليه. لا خوف على الدين من الغزو الثقافي. نستطيع أن نطالب بالغزو الثقافي ولا نتخلى عن الدين. بل يمكن القول إننا يجب أن نطالب بغزو ثقافي من أجل الحفاظ على الدين وما يُسمى التراث. من دون ذلك نخسر الدين والدنيا.

هناك فرق بين استيراد أدوات الغرب واستخدامها، وبين أن نصنع هذه الأدوات. لا نستطيع أن نصنع هذه الأدوات من دون تبنّي الثقافة الغربية بالكامل، “بالكامل” هنا بما يعني العقل العلمي الذي أنتج التكنولوجيا وأنتج هذه الأدوات.

عندنا علماء هم رجال دين. علمهم لا يتعلق بالدنيا أو بملاحظة ما يجري في الطبيعة. اعتبار العلم الديني علماً هو سبب من أسباب ما نحن فيه. هو علم لا يلزم لمعالجة قضايا العصر الحديث؛ لا ينفع لمواجهة المشاكل التي نواجهها. هذا العلم الديني فقه طوره “العلماء” بعد ظهور الدين. نستطيع الاستغناء عنه من أجل مواجهة مشاكلنا الحقيقية؛ هي مشاكل لا تتعلّق بالطهارة والصلاة والحج والصوم، فهذه محسومة؛ هي مشاكل تتعلّق بالسياسة والإنتاج والعمل وبناء مجتمعات متماسكة وخالية من الحروب الأهلية. مال النفط ليس ثروة. هو مال يُنفق على الحروب الأهلية وتدمير المجتمعات العربية. الثروة الحقيقية هي العمل والإنتاج. مال النفط تحوّل ضد مجتمعاتنا؛ يستخدم لتدميرها. في المجتمع المنتج، المؤسّس على العلوم الحديثة، سوف نحافظ على تاريخنا (تراثنا منظور إليه من وجهة نظر أخرى). سوف نتجاوز تراثنا (ماضينا)، ونبني تاريخاً جديداً؛ سوف نقرر مصيرنا ولا نتركه بيد الغرب لتقرره الامبريالية الجديدة. واضح أن المنظومة الحاكمة العربية، ومن ورائها المنظومة الثقافية الدينية والعلمانية، يهمهما الماضي الذي في أوهامهما ولا يهمهما التراث الحقيقي الذي هو تاريخنا. نرى كيف يهدمون التاريخ، ويقفون حائلاً ضد شعوبنا التي تريد إزاحتهم لتكسب كرامتها وتصنع تاريخها وتقرر مصيرها. البحث العلمي في الغرب أدى الى رؤية جديدة للتاريخ (غير الماضي) وللعلم وللإنتاج. لذلك هم يتحكمون ويحكمون العالم، ونحن نتبع. عندما قال ترامب للملك: لا تستطيع البقاء لمدة أسبوعين من دوننا، كان محقاً. الملك يعرف أن الثقافة التي يدافع عنها بل يفرضها على شعوبنا ومجتمعاتنا هي السبب الأساسي لهذه المذلّة. ذلّ الاستعمار مهين. ذلّ حكامنا مهين أكثر.

تقود الثقافة الى وعي بالذات وبالآخر. الوعي الذي لدينا يعبّر عن دونية سببها التأخر. بالأحرى الجمود الثقافي. الجمود الثقافي الناتج عن الاستبداد والرقابة، بالدرجة الأولى، يؤدي الى إضعاف ملكة التفكير والشك، والى إضعاف الحوار وإلغاء السياسة. هو حصيلة إزاحة المواطن وتحويله الى جمهور تابع يردد ما يُطلب منه. يصبح من دون مبادرة. هذه هي في الأساس الهزيمة والتراجع الاقتصادي. لا يقاتل من فقد الكرامة. لا يعمل من يذلّ ويُهان كل لحظة.

نحن جزء من نظام عالمي، شئنا أم أبينا. نتوهم أن لدينا ثروة. المال ذو القيمة الأخلاقية العليا. المجتمع يعتمد على الاستهلاك لا الإنتاج. بسبب النفط نعيش على حساب الطبيعة. وبسبب مال النفط يزدهر الاستهلاك على حساب الإنتاج. المجتمع الذي يفقد قدرته الإنتاجية يخسر قدرته الذهنية واستعداداته الأخلاقية. نظن أننا من هذا العالم بينما نحن خارجه. لذلك نحن خارج ثقافته. نتمسّك بثقافتنا من دون تطويرها وتجاوزها لتصير كياناً تاريخياً. هي تذبل ونحن نذبل معها.

تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق

 

Exit mobile version