طلال سلمان

النساء أيضا يحملقن

في البيت الكبير في الحي الفاطمي حيث ولدت ثم “أنشئت” كانت للجمال معايير مختلفة عن المعايير التي أسمعها أو أراها تتكرر هذه الأيام في أحاديث وتصرفات الرجال والنساء على حد سواء. بقيت معايير من الماضي مغروسة في عقلي إلى مرحلة الشباب، وبصراحة بقيت مغروسة إلى أن جاءت مرحلة فرضت طبيعة العمل وأنا على أبواب الشباب أن أتنقل بين ثقافات متباينة لكل منها معاييرها الخاصة للجمال.

أذكر من معايير الجمال في بلدي كما غرسوها في وعيي وأنا في ذهن مراهق على وشك أن يصير شابا: “الشعر طويل سرحان والأورة بلاطة حمام والعيون عيون غزلان والخدين تفاح مليان والمناخير نبقة والبق خاتم سليمان والكعب أحمر شهقان يدب والأرض تزلزل والصدر ياسمين مليان”.


لا أعرف من أين تبنينا بياض البشرة معيارا للجمال في بلدنا. أتمنى أن يجيبني خبراء وعلماء الحضارة والأجناس ومؤرخو الثقافات. أحد هؤلاء، وربما كان دليل رحلات في وادي الملوك هو الذي أفتى أمامي بأن المصري القديم كان في مثل طوله وعرضه وبالتأكيد في لون بشرته. رسخت في ذهني منذ المرحلة الأولى وأنا لم أتجاوز الثانية عشر من عمري أن أجدادي قبل أن يختلطوا بكل وافد أجنبي كانوا سمر البشرة، سمرة أحيانا شديدة كلون بشرة الدليل الذي رافقنا ونحن تلاميذ صغار وغرس فينا يقينه بأن المصري أصله أسمر سمرة محروقة. جداتي، وهن كثيرات، رفضن هذا اليقين. إحداهن وهي الجدة السمراء جدا تعرف عن “يقين” أننا ورثنا سمرة اللون من لون بشرة الوافدين من جزيرة العرب منذ عصور ما قبل ظهور الإسلام ومعه وبعده. جدة أخرى تعرف أيضا عن “يقين” أننا أحفاد ملوك وضباط وجنود من بلاد في شرق سيناء أو شمال المتوسط أهلها بيض البشرة دخلوا مصر بحرب أو بسلام آمنين. حكموها عقودا أو قرونا وصاهروا رجالها ونساءها. لن يكون الحيثيون والبطالمة أولهم ولا المماليك الشراكسة ولا الألبانيون أو الأتراك آخرهم. جدة من جداتي، وهي الجدة صاحبة البشرة البلورية في بياضها، تكاد لا تتوقف عن مكايدة أخواتها، فالبياض دليل عز ونعم وأبهة ورفاهة وأصول قوقازية، ومن ذريتها سوف يخرج في مصر أهل قوة وسلطان. في بيتنا الكبير عشنا أطفالا ومراهقين وشبابا نتنافس لعبا وحبا بألوان بشرتنا. تعلمنا التعايش، كل منا فخور بلونه وأصله.


قالت: “جمعتنا جلسة، فيها رجال ونساء من أعمار شتى، وأيضا ببشرات شتى. دار الحديث حول صعوبات التعايش بين الناس في البلد الواحدة متفرعا عن حديث آخر دار مبكرا وكان موضوعه اختلاف معايير الجمال عند مختلف الشعوب وأثر هذا الاختلاف على السلم الاجتماعي. بدأت القصة، إن كانت تصلح قصة، عندما أثيرت مسألة ضرورة تنبيه رجل بعينه بالامتناع عن الحملقة في وجوهنا، نحن المشاركات في اجتماع ضم الجنسين. الحملقة مقلقة للمرأة. قليلات اللائي يعتبرنها نوعا من الإطراء لجمالهن. الغالبية العظمى ينتابهن الشك في حسن اختيارهن لملابسهن أو لخطأ في ترتيب الشعر أو لانحراف غير مقصود في تصرف أو مسلك. يومها سربت إلى الحاضرات اقتراحا بأن نقرر جميعنا نحن النساء المشاركات البحلقة في وجه الرجل، جميعنا في وقت واحد والصمود في الحملقة لأطول وقت ممكن. نجحنا، ففي أقل من دقيقتين كان الرجل يلملم أغراضه ويغادر القاعة في ارتباك وتوتر شديدين”.


قاطعتها سيدة في مقتبل النضوج “أذكر جيدا ما حدث ومنذ ذلك اليوم صرت وصديقاتي نرد على حملقة الرجل بحملقة نسوية جماعية تفكك أوصاله. لكن تعالوا نبحث في مبررات الحملقة وسوف أتطوع كنموذج لأحد المبررات. نشأت في حي بمدينة أتلانتا بولاية جورجيا غالبية سكانه من السود. اختلطت ببيض البشرة في المدرسة والجامعة وحانات السهر والترفيه وفي نوادي التدريب الرياضي. نادرا ما اختلطنا اجتماعيا. لم نتزاور عائليا. لم أقع في حب شاب أبيض. تعرفون طبعا أنني كنت دائما هدفا لحملقة الشبان البيض. وتعرفون السبب. قيل لي صراحة من رجل أبيض أنني أجمع في جسدي كل ما يمكن أن يثير رغبة الجنس عند الرجل، بشرة سوداء تلمع وشفتان ممتلئتان وعينان واسعتان وجسد ممشوق وغير نحيف في آن واحد. نعم، هكذا حدد الرجل الأبيض معايير جمال المرأة السوداء. اشتراها أو اختطفها من قبيلتها في إفريقيا واحتفظ بها بين عبيد المزرعة أو القصر لخدمته ولتنتج أطفالا سود بنفس المعايير. عشت حياة لا تختلف كثيرا عن حيوات جداتي. بالنسبة للإنسان الأبيض في المجتمع الأمريكي أديت دور “الآخر”. أديته، كما عاش يؤديه بامتياز كل أمريكي أسود وأمريكية سوداء. لم أعش يوما واحدا في الولايات المتحدة ولا عاشته أمي وابنتي عضوا أصيلا في المجتمع مثل أي امرأة بيضاء. أنا بالنسبة له أو لها هو “الآخر” ولن أكون غير ذلك. تعودت على أداء هذا الدور منذ كنت طفلة في روضة الأطفال حتى أنني وفي رحلة عمل طويلة في دولة إفريقية لم أتصرف يوما إلا كما يتصرف “الآخر”، أي كما تعودنا أن نتصرف في أمريكا. كانت تصرفات الأفارقة معي عادية كتصرفاتهم فيما بينهم، أما أنا فتصرفاتي، كما وصفها الأفارقة، كانت كتصرفات إنسان مختلف المواصفات. نعم، المرأة الأمريكية ذات البشرة السوداء لا تتصرف في مجتمع السود كأفريقيا مثلا كأي امرأة سوداء، هي غريبة بين السود في أفريقيا كما هي غريبة بين البيض في بلدها. نجحت أمريكا في أن تصنع مواطنا “آخر”، له كل الحقوق التي للمواطن الأبيض وعليه نفس الواجبات ولكنه مواطن “آخر”. صنعت إنسانا لا يصلح ليكون عضوا أصليا في أي جماعة بشرية أخرى. هو الشخص الآخر في كل موقع. لا أبالغ، ولكني أعتقد أن الأمريكي الأسود ليس وحيدا في هذا المضمار، إنها عقيدة الرجل الأبيض في كل مكان هيمن عليه، في أفريقيا كما في أيام روديسيا وجنوب أفريقيا وفي أوروبا وفي الأمريكتين”.


تدخلت فقلت “جارتي همست في أذني أن النقاش انحرف عن موضوع بدأنا به وهو معايير الجمال عند الشعوب فهمست بدوري في أذنها أن الموضوع بطبيعته متشابك ومتداخل المكونات. أعرض عليها وعليكم مثالين لما أقول. أتصور أنه في زمن غير بعيد استطاعت طلائع نسوية من التسلل إلى صناعة الجمال في الغرب ثم الهيمنة عليها. في هذه المرحلة صعدت ناعومي كامبل، أميرة من أميرات إمبراطورية الأزياء، وهي سوداء من أصول إفريقية، لتصبح التجسيد الحي للجمال الأسود كما يجب أن يكون، أي منسجما مع المعايير الغربية للمرأة البيضاء وليس كما جسده الرجل الأبيض عبر القرون وعبر رغباته للجمال الأسود. ليس سرا أن الأفريقي الجديد متمسك بمعايير للجمال مختلفة. هذا الأفريقي الجديد يرفض النموذج “البلاستيكي” للجمال الأفريقي الذي تروج له صناعة الأزياء والتجميل في الغرب.

أضفت بالقول “المثال الآخر من الصين. كنت هناك ورأيت بعضا من آخر نساء العهد الإمبراطوري في الصين. غالبيتهن فوق الأربعين. نساء يمشين كـ”المكسحات”، بل هن بالفعل كذلك. كانت من بين معايير الجمال المعقدة في الصين القديمة القدم المتناهية الصغر. لذلك جرى التقليد بأن تكون هدية الطفلة عند بلوغها السابعة من عمرها طاقم حذاء مصنوع من الحديد لا تخلعه قبل بلوغ سن المراهقة. ليس مهما أن تمشي كالكسيحات ولكن المهم أن تمشي متمهلة. المرأة لا يجوز أن تهرول. الطفلة تكبر وتنضج طولا وعرضا باستثناء القدم المقيدة النمو في قالبها الحديدي. لا فرق بين امرأة فقيرة وامرأة غنية في مراعاة هذا المعيار. بعد قرون من الالتزام بهذا المعيار توقف العمل به مع ثورة الاستقلال وبشكل أكثر حزما مع الثورة الاشتراكية التي تعاملت مع المرأة كعنصر منتج مثلها مثل الرجل. المعيار الأخر كان نعومة الجلد. وأظنه من معايير الجمال عند الغالبية العظمى من نساء العالم. هناك في الصين حرصت نساء القصر والعائلات الإقطاعية على الاستحمام في حمام من اللؤلؤ المطحون والمذاب في نوع خاص من الحليب. هنا في بلدنا أذكر أنني كنت وأنا طفل أنتظر باللهفة المشروعة اليوم المقرر أن تجري فيه عمليات توفير النعومة لبشرة وأجساد جميع نساء العائلة والجيران أيضا. كان يوم عيد للأطفال توزع فيه الحلوى والمشروبات ونتفرج على الراقصات ونطرب مع غناء المغنيات”.


استأذنت طالبا فترة راحة على أمل العودة للحديث عما يعجب المرأة في الرجل. ولماذا نرفض أن تكون للرجال كما للنساء معايير جمال، أم أن لكل امرأة على حدة ما تفضله في الرجل؟

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version