طلال سلمان

المسألة الأمريكية غير جاهزة لحل قريب

قضيت نصيبا معتبراً من حياتي العملية أتابع بشغف تصرفات الولايات المتحدة. عشت سنوات عديدة أسجل توقعات تمس مستقبل دولنا ومجتمعاتنا العربية ضمن توقعات تمس مجمل سياسات ومصالح أمريكا الخارجية. الآن أعيش بعض الوقت أناقش مع متخصصين ومتخصصات مخضرمين ومخضرمات تحليلات ومعلومات تتعلق بمجموعة شواهد تلخص ما يصح أن نطلق عليه عبارة “المسألة الأمريكية”.

لا أقصد، من بعيد أو قريب، وجود صلة أو وجه شبه بين الحال الراهنة للنظام الدولي المعاصر وحال النظام الدولي خلال أواخر القرن الثامن عشر وطوال سنوات القرن التاسع عشر، ولا بين حال الإمبراطورية العثمانية وقتها وحال الدولة الأعظم، وأقصد الولايات المتحدة الأمريكية، في ظروفها الراهنة. أكرر أنني لا أقصد أو ألمح بوجود صلة أو وجه شبه بين المسألتين، وإن كنت لا أنكر الضغط الشديد والملح من جانب تطورات الوضع الأمريكي وتصرفات المسئولين عنه لنقر آسفين بأن هناك “مسألة امريكية” وأن العالم بأسره يعاني من تفاقم بعض تداعياتها وبخاصة الزيادة  المطردة في الوعي لدى مختصين ومسئولين بأن لا حل لهذه المسألة ينتظرونه قريباً.

***

لأغراض هذا المقال يجدر بنا عرض ما يعنيه لدينا مفهوم المسألة الأمريكية تحت ثلاثة عناوين. أول العناوين، المأزق الدستوري والديموقراطي، والمقصود به مجمل التطورات التي وقعت في الحياة السياسية الأمريكية وأوجزتها بوضوح شديد تصرفات غير قليلة من جانب الطبقة السياسية عبر السنوات الأخيرة. أغلب هذه التصرفات  تجسد في شن حروب خارجية، وتعريض حقوق شعوب ودول أجنبية للانتهاك، وتجاوز المبادئ الحاكمة للنظام الديموقراطي الأمريكي. اكتملت التطورات، وأغلبها في شكل تجاوزات وخروقات، أو عادت تطرح نفسها بشكل مركز خلال الحملة الانتخابية التي مهدت لوصول السيد ترامب إلى البيت الأبيض، طرحت نفسها أيضا في الحملة الانتخابية التي شهدت سقوطه قرب نهاية ولايته، لكن أهم التجاوزات كانت تلك التي وقعت خلال السنوات الأربع، سنوات عهد الجمهوريين في الحكم.

تحت العنوان الثاني، المأزق الحضاري، اجتمعت عدة مؤشرات أهمها التراجع المحسوس في مكانة الولايات المتحدة على الصعيد التربوي والتعليمي وعلى صعيد التقدم التكنولوجي وبخاصة في مجال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. أنبه هنا وفي كتابات أخرى عديدة إلى أن ليس كل ما يقع تحت بند الانحدار الحضاري الأمريكي مطلق وإنما بعضه، إن لم يكن أكثره، نسبي أي بالمقارنة بما حققته جمهورية  الصين الشعبية خلال صعودها الأسطوري.

ثالث العناوين يشير إلى المأزق الأمني. قبل سنوات غير كثيرة لم يكن أحد من الخبراء أو المراقبين الإعلاميين يجادل في أن التفوق الأمني الأمريكي مطلق وأن القوة الصلبة الأمريكية ماحقة. الآن تدور مناقشات جادة حول ما أصاب الفجوة التي كانت تفصل بين القوة الأمريكية وأقرب قوة أخرى. المؤكد أن أمريكا لم تعد الدولة القائد بلا منازع في إدارة أحلافها الخارجية وفي القدرة على تمويل هذه الأحلاف. المؤكد أيضاً أن التقصير في إدارة حروبها الخارجية مثل حربها في أفغانستان وحملاتها ضد الإرهاب في الشرق الأوسط ومنطقة الساحل، والعجز عن حماية الديموقراطية وتخليها عن قيادة هذا النشاط، والتراخي في استخدام القوة لفرض إرادتها على دولة مثل فنزويلا، وعدم القدرة على توفير ضمانات وتسخير نفوذ مناسب  لدعم استقلال أوكرانيا في مواجهة الضغط الروسي ومنع روسيا من احتلال شبه جزيرة القرم، كلها فسرتها دول وتيارات كثيرة على أنها دلائل ملموسة على إنحدار أمريكا، القوة الأعظم في النظام الدولي القائم.

***

يصاحب الإنحدار الأمريكي تغيرات تكاد تغطي كافة الأصعدة وفي معظم أقاليم العالم. إستمعت إلى آراء مراقبين وتابعت بالدقة الواجبة سلوك دول وتيارات راغبة في البحث عن علامات تؤكد الصلة بين تغيرات في أنماط سلوك في العلاقات الدولية من ناحية ومن ناحية أخرى علامات إنحدار القوة الأمريكية بوجهيها، الصلب والرخو.  عشنا مرحلة هامة تغيرت فيها أوضاع كثيرة في الشرق الأوسط، وهي مرحلة ممتدة إلى يومنا هذا وممتدة في ظني إلى سنوات وربما عقود قادمة. تابعنا مثلاً وبكل الشغف الممتع تغلغل التوسع الروسي وتعمق المصالح الصينية في الإقليم في حماية الولايات المتحدة. كانت أمريكا ولا تزال إلى حد ملموس الدولة الأجنبية الأقوى نفوذاً في الإقليم حتى وهي تنسحب سراً وعلناً. رأيناها تنسحب بعد أن تنسق مع روسيا أو غيرها مثل تركيا وإسرائيل لتضمن انسحاباً آمناً وعودة أيضاً آمنة في حال فشلت أو تغيرت خطط الانسحاب. لم أتردد لحظة واحدة لأطلق على العلاقات بين أمريكا من جهة وكل من الصين وروسيا من جهة أخرى صفات تجريبية من نوع الإحلال أو شغل الفراغ المترتب على الإنسحاب الأمريكي، وهو الذي كان يجري برضاء الأطراف الأهم في عمليات ترتيب الشرق الأوسط من جديد. جدير بالذكر أن ليست كل القطاعات الأمنية في الولايات المتحدة ظلت مجمعة على دعم هذا التوجه في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى أن عادت فنشطت ضغوط قوى داخلية ومنها إسرائيل. هنا استخدمت صفة الداخل لتنطبق على التطور الذي حدث في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية خلال ولاية دونالد ترامب في أمريكا وبعض ولاية بنيامين نتنياهو في إسرائيل. إذ يبدو أن إسرائيل نجحت في التوظيف الأمثل لأموال بعض أغنياء اليهود حتى أن عدداً منهم تولى فعلياً إدارة ما عرف بصفقة القرن أحياناً كممثلين لإسرائيل وأحيانا أخرى ممثلين لأمريكا. هكذا تحققت إرادة الطرفين على التعجيل بتسليم إسرائيل ما تريد في الشرق الأوسط قبل أن تتسع شقة الخلاف داخل الحركة الإنجيلية من ناحية ومن ناحية أخرى قبل استكمال أمريكا إنسحاباتها من المنطقة. هكذا تتفادى إسرائيل إحتمال أن تقف لها روسيا أو تركيا أو الصين في وقت لاحق ممانعة أو ساعية لنصيب لها في حصيلة ما صار يعرف بالصفقة.

***

لن أختلف مع خبيرة أمريكية في شئون الشرق الأوسط علقت على صفقة القرن والعجلة التي نفذت بها فقالت لا بد أن إسرائيل وهي قارئة جيدة للواقع الأمريكي أدركت أن لا حلول قريباً لمشكلات أمريكا. نعم لن أختلف مع هذا الرأي بل وأضيف اعتقادي أن دولاً كثيرة، وليس فقط إسرائيل، تنتظرها في الشرق الأوسط على إمتداد الشهور والسنوات القادمة أدوار جديدة لتؤدى وفراغات لتملأ.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version