طلال سلمان

"المرحلة الثالثة" تهدف إلى تسهيل إطالة الحرب

وفي اليوم الخامس والتسعين، يتجدد الأمل يتجدد بقرب انتهاء الغمة، ونيل شعبنا حقوقه وانتصاره على قوى الهمجية والظلام.

**

يُكثر جيش العدو مؤخرا من الكلام عن انتقاله من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة من حربه الهمجية على غزة، مثيرا تساؤلات حول إذا كان قد انتقل فعلا إلى المرحلة الثالثة، أو موعد الانتقال إليها. ولم يقتصر الاهتمام بخطوة الانتقال هذه على الفلسطينيين في غزة، المعرّضين في كل دقيقة للموت والدمار، ولا على مستوطني غلاف غزة الراغبين في العودة إلى مستوطناتهم، ولا حتى على أهالي الجنود المعرضين يوميا لاحتمالات القتل أو الإصابة على أيدي المقاومين. إذ ربما يكون في طليعة المهتمين بالأمر موظفو الإدارة الأميركية الراغبين في استخدام الأساليب كلّها، بما فيها “غسل” الكلمات، لتسهيل مهمة إسرائيل وتحقيق أهداف حربها.

ولذلك، ثمة معنى عميق لكلام وزير الحرب يؤآف غالانت يوم أمس أمام كتلة “الليكود” في الكنيست، عندما وصف الانتقال من المرحلة “ب” إلى المرحلة “ج” من القتال في غزة بأنه “مصطلحات عسكرية داخلية”. وقال، بغضب، لأعضاء الكنيست أن “هذه مصطلحات عسكرية داخلية، وليست نساء أوفكيم وسديروت، أو أي امرأة لديها نفوذ، مؤهلات لإخبارنا بالانتقال من هذه المرحلة أو تلك”.

واعترف للمرة الأولى، أنه حتى بعد العودة المتوقعة للذين غادروا مستوطنات الجنوب “سيكون هناك وابل من إطلاق النار”.

ولأن كلمات غالانت أطلقت نيرانا في اتجاهات غير متوقعة، عاد ليشرح في تغريدة له على موقع “إكس”: “أنا آسف لأن هناك من اختار تشويه كلامي بطريقة التفافية. كان القصد من الكلام هو أن ” الانتقال بين المراحل كان يهدف إلى خلق لغة مشتركة بين المستويين العسكري والسياسي، وليس للتداول في الخطاب العام. سكان أوفاكيم وسديروت كانوا وما زالوا في صدارة ذهني”.

وكان عضو الكنيست داني دانون قد قال لغالانت: “سمعت تقارير تفيد بأنك قررت التخلي عن احتلال محور فيلادلفيا، وهو ما يتناقض تماما مع ما قاله رئيس الوزراء بشكل واضح لا لبس فيه. ونحن جميعاً ندرك أن “حماس” لن تهزم ما دام طريق التهريب الرئيسي، فيلادلفيا، مفتوحاً. يجب على إسرائيل أن تتوحد حول هذه القضية وتوضح أن نزع السلاح الكامل للقطاع يشمل السيطرة الإسرائيلية على محور فيلادلفيا”. فردّ غالانت قائلا: “أنا لم أقل إن ذلك لن يحدث، لكن السيطرة هناك هي أمر معقد وهناك أولويات بشأن هذه القضية. وسيتعين علينا اتخاذ قرارات”.

وفي مقابلة أجرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” مع غالانت قال إن الجيش الإسرائيلي سينتقل قريبا من “مرحلة المناورة المكثفة” إلى “أنواع مختلفة من العمليات الخاصة” في الحرب على غزة.

وأكد أن إسرائيل لن تتخلى عن أهدافها التي تشمل القضاء على حركة حماس، وإطلاق سراح المختطفين، وإضعاف القدرات الحكومية لحماس في قطاع غزة.

وأشار من ناحية أخرى إلى أن “القتال مستمر في خان يونس، على الرغم من العدد الكبير للمدنيين في جنوبي قطاع غزة”، مضيفا “علينا أن نأخذ في الاعتبار العدد الهائل من المدنيين”، ولافتا إلى أن الجيش الإسرائيلي كان عليه أن يعدل تكتيكاته، بحسب قوله، لذلك “سيستغرق الأمر بعض الوقت، لكننا لن نستسلم”.

وأكد المتحدث باسم جيش العدو العميد دانييل هاغاري مساء أمس في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” أن الجيش الإسرائيلي “بدأ مرحلة جديدة، وأقل حدة، من القتال”. وعلى حد قوله، فقد بدأ الجيش بالفعل بالانتقال إلى المرحلة الجديدة، التي تتضمن عددًا أقل من القوات البرية والغارات الجوية.

واعتبر هاغاري إن “الحرب دخلت مرحلة مختلفة، لكن المرحلة الانتقالية لن تكون مصحوبة بمراسم أو تصريحات دراماتيكية”.

وكان هاغاري قد أعلن رسميا انتقال الجيش في حربه على غزة من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة. وتتلخص مراحل الحرب، وفق المعلن، بأن الأولى كانت تشمل القصف الشديد جوا وبرا وبحرا تمهيدا للمرحلة الثانية وهي العملية البرية بقوات مناورة كبيرة. أما المرحلة الثالثة، فتقضي بتقليص نطاق المناورة البرية والاعتماد على العمليات “الجراحية” إما من خلال وحدات كوماندو، أو باستهدافات جوية أو حتى بغارات برية محدودة إذا تطلب الأمر.

وبمعنى من المعاني، فإن المرحلة الثالثة تشمل التهدئة والتصعيد والتنقل بين المراحل الثلاث، والعودة إلى أي منها وقت الحاجة. وإذا كان لذلك من معنى، فهو لا يعني على الإطلاق الفلسطينيين في غزة، الذين لن يتغير واقعهم بشكل جوهري. فهم سيبقون وفق رؤية العدو، في وضع المضغوط والمحاصر الذي ينتظر في كل وقت الضربة الإسرائيلية من حيث لا يتوقع.

فالمرحلة الثالثة، في الرؤية الإسرائيلية، لا تتضمن عودة أهالي شمالي غزة إلى بيوتهم، ولا تنهي الحرب عليهم، وتبقيهم في ثلاث محافظات هي غزة الوسطى وخانيونس وحتى رفح، سواءً في حالة حرب كما يحدث في مخيمات الوسطى وخانيونس حاليا خلال المرحلة الثانية، أو في وضع انتظار لما يريد الاحتلال فرضه في رفح ومحور فيلادلفيا. ومن المعروف أن الغارات الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية لم تتوقف حتى الآن على مدينة غزة وشماليها برغم إعلان الجيش عن انتهاء عمليات “التطهير” فيها. ومازالت فرق عسكرية إسرائيلية بكاملها تخوض حربا في مخيمات الوسطى وخانيونس. كما يعلن الجيش عدم استبعاده العودة قريبا للعمل بمنظومات فرق في كل من مدينة غزة وبيت لاهيا وجباليا.

ومن البديهي أن إحساس جيش العدو بالعجز يتفاقم مع استمرار المقاومة التي تكبده مزيدا من الخسائر في الأرواح، فضلا عن الخسائر المادية الكبيرة.

ويزداد هذا الاحساس بالعجز كلما أفلحت المقاومة، كما فعلت أمس، في اليوم الرابع والتسعين، في إطلاق صواريخ على تلّ أبيب وجوارها بصليات كبيرة. وربما كان هذا الاحساس هو ما دفع غالانت للاعتراف بأن مستوطنات غلاف غزة، وعلى الرغم من تدمير غزة، ستظل تتعرض لإطلاق نار من القطاع، على عكس ما تخيل هو في البداية من أنه سيسحق المقاومة، وليس تقليص قدرتها فحسب.

ويقودنا ذلك كلّه إلى السبب الحقيقي للإعلان عن مراحل الحرب، التي صارت أقرب إلى صنع عجة منها إلى عرض منظومة أفكار متسقة. والسبب يكمن في الإدارة الاميركية التي تريد من إسرائيل أن تتصرّف، طوال الوقت، وفق منطقها هي وقواعدها هي، لاسيما وأنها قالت منذ البداية بوجوب لجوء إسرائيل إلى استخدام قذائف أصغر حجما وأقل تدميرا واقترحت على العدو سبلا لتقليص الخسائر في أرواح المدنيين الفلسطينيين.

كما أن واشنطن هي التي تطلب من إسرائيل السماح بعودة نازحي شمالي غزة إلى ديارهم، وتقديم معونات غذائية وإنسانية لمن تبقوا هناك. ومنذ نحو أكثر من شهر تتكرر المطالب الأميركية هذه، من دون أن توحي إسرائيل بأي شكل إلى أنها ستلبيها.

إلى ذلك، اعترفت صحيفة “يديعوت أحرنوت” بأن أحد أهم دوافع إسرائيل للحديث عن المراحل الثلاث هي الرغبة في طمأنة الأميركيين. وهذا ما يتضح من واقع أن غالبية التصريحات الإسرائيلية بهذا الشأن موجهة إلى الأذن الأميركية وعبر وسائل إعلام أميركية، كما أنها ترتبط بزيارات مسؤولين أميركيين. وفي هذه المرة، الكلام مرتبط بزيارة وزير الخارجية أنطوني بلينكن الذي أعلن مرارا “لاءات” واشنطن ورفضها لطروحات عدد من وزراء نتنياهو، برغم استمرارها في تأييد أهداف الحرب الإسرائيلية ضد “حماس”.

ونشرت تلك التصريحات بالتزامن مع زيارة بلينكن، الذي قال مرارا وتكرارا إنه يأمل في زيادة المساعدات الإنسانية للقطاع وتقليل الضرر على المواطنين الفلسطينيين. وهناك سبب آخر للطلب الأميركي هو الأمل في أن تساعد التصريحات حول خفض حدة القتال في غزة واشنطن في المحادثات التي تحاول قيادتها بهدف منع التصعيد على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة- وستسهل على حزب الله “النزول عن شجرة التصعيد” وتخفيف قوة عملياته.

في كل حال، فإن الانتقال إلى المرحلة الثالثة لا يعني قرب انتهاء الحرب، وإنما تسهيل إطالتها. وهذا ما يظهر في الكلام المتكرر لكل من نتنياهو وغالانت بأن الحرب لن تنتهي – لا في الجنوب ولا في الشمال – وستستمر لأشهر عدة أخرى. وقال الطرفان: “لأشهر عديدة أخرى، هناك حاجة لهامش دولي للمناورة، ونحن نعمل من أجل الحفاظ عليه”.

Exit mobile version