طلال سلمان

المذبحة وطناً.. الذاكرة وطناً!

كنا أطفالاً، بعد، حين احتلت فلسطين وعينا كمأساة قومية: فقد وصلنا نثار لحمها، أرضاً وشعباً، قبل أن نعرف القراءة تماماً أو نفهم السياسة، ولو جزئياً.
في بلدة صغيرة بقضاء عاليه، في جبل لبنان، وصلت فلسطين كجرح نازف عبر مجموعة من أبنائها المقتلعين من أرضها، المرميين إلى جحيم اللجوء والصدقات والإحسان، وهم أهل بلاد الخير والوفرة وفرص العمل والرزق للآخرين.
كانت أكثرية أولئك الذين قذفتهم الشاحنة العسكرية عند باب منزل شبه مهجور يجاور الفرن، من النساء والشيوخ والأطفال، وكان الرجال قلة معدودة يهرب واحدهم بعينيه من مواجهة الناس معتذراً بأنه إنما جاء »لرعاية القصّر والعاجزين«، وأنه سيعود إلى الميدان لمجرد الاطمئان إلى أنهم قد باتوا في أمان..
على أن أكثر ما لفت نظرنا، نحن الصغار، كان تلك »الصرر« التي تحملها القافلة، والتي كانت تحرسها النساء وتبعدنها عن عبث الأطفال أو عن فضول الكبار.
وكان صعباً على مثْلي أن يفهم أن تلك »الصرر« تضم أشلاء فلسطين المغتالة في عز النهار: ما أمكن استخلاصه أو حمله من صكوك الملكية أو من الوثائق المثبتة للحقوق والذكريات المثبتة للهوية والمفاتيح وسائر الأشياء الحميمة التي تؤكد انتماء الجلد إلى الجسد أو العينين إلى الوجه.
منذ تلك العشية الممطرة، في بدايات الشتاء من العام 1948، وعلى امتداد العمر، ظل الخبر الجرح مفتوحاً: قد تختلف التفاصيل لكن المذابح والمجازر تتواصل بلا انقطاع وكأنها سيرة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فلا يكاد ينقضي شهر إلا ونسمع أو نقرأ (ومؤخراً صرنا نشاهد الصور) عن مذبحة جديدة لاقتلاع المزيد من لحم فلسطين، بشرها وبيوتها وشجرها، سهولها وجداولها، قراها ومدنها وسائر معالمها الأصلية، لإقامة المستوطنات للمستقدمين الجدد من يهود العالم الذين لم يكونوا يعرفون أين تقع »أرض الميعاد« الأسطورية!
وأخذت فلسطين المستعصية على الموت تنتشر كالهواء لتحتل مساحة ممتازة من اهتمام العالم أجمع، وتمنح شرف قضيتها للعرب كراية لنضالهم من أجل التحرر والعدالة والتقدم ومواجهة ما يدبر لإعادة استعبادهم والهيمنة على ثرواتهم ومواردهم الطبيعية والتحكم بمصيرهم.
بالمقابل، كانت إسرائيل الدولة المستولدة فوق أرض فلسطين، والمستنسخة عن أسطورة توراتية بقوة السلاح »العلماني« الأوروبي بداية ثم الأميركي، تتوطد أركانها وتتمدد، فتحتل المزيد من الأرض العربية خارج فلسطين البلا حدود، والمزيد من الإرادة العربية، لتؤكد الحقيقة الصارخة: ليست إسرائيل دولة كسائر الدول في المنطقة بل هي »الدولة المركزية« في هذه المنطقة التي كانت »وطناً عربياً« والتي ستغدو »الشرق الأوسط«؛ مجرد مسمى جغرافي لا هوية له وبالتالي لا صاحب لأرضه، إلا من قدر على أخذها بذراعه!
وتدريجياً، بدأ تحويل »السكان الأصليين« الى رعايا من الدرجة الثالثة؛ يد عاملة رخيصة الأجر وأتباع وسماسرة وأرقاء يخضعون لوصايتها ويشكلون سوقا استهلاكية لمنتجاتها الزراعية (من أرضهم) والصناعية، ويطمحون لأن تمنحهم حقوق الأقلية العرقية أو القومية.
بين الحين والآخر، كانت إسرائيل تضيف إلى تراثها الدموي الثقيل مجزرة جديدة، للتأكيد على طبيعة العلاقة بينها وبين »السكان الأصليين«: فهي القوة التي لا تُقهر، وأي تفكير أو سعي لمقاومتها سينتهي بمقتلة جديدة تؤكد انكسار المكسور والتفوق الساحق للسيد الجديد.
وكان بديهيا أن تعمم إسرائيل صورتها كجبار لا يقاوَم ولا يرحم بمجازر خارج حدود فلسطين كما حدث في العديد من قرى مصر وسوريا ولبنان (من بينها مجزرة قانا 1996 التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة طفل وامرأة وشيخ كانوا لجأوا هربا من قصفها المجنون إلى مخيم لقوات الطوارئ الدولية)…
وبين الحين والآخر، ومن باب التذكير بما لا يُنسى، كان الطيارون الإسرائيليون يرتكبون »أخطاء« بسيطة فيبدّدون أسرة كاملة (كما في جنتا على الحدود اللبنانية السورية في بداية هذا العام)..
وقد يغرق كثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع في تحليل النفسية اليهودية (الإسرائيلية) والنص التوراتي وعلاقة عقدة الاضطهاد التاريخية (؟!) بالمجازر ضد الآخرين.
لكن الواقع أن للمجزرة وظيفة سياسية واضحة في سياق التاريخ الدموي للكيان الصهيوني، الذي أقيم فوق فلسطين بذريعة أنها أرض بلا شعب، لكأنما كان يريد إثبات هذه الكذبة بالإبادة المنهجية لشعبها: مَن خرج نجا ومَن بقي فقتلاً يُقتل حتى الإفناء الكامل لذريته ولأنفاسه التي منها يتشكل هواء فلسطين.
إنها ليست سياسة حزب أو تكتل أو تيار أو شخص.
إنها نهج مستمر ومتواصل، لم يتبدل ولم يتغير ولم يتم الاستغناء عنه مرة، سواء أكان الحكم لمن يطلق عليهم تصنيف »المتطرفين« من أهل »اليمين« من جماعة الليكود والتيارات الدينية أو لمن يُصنَّفون مجازاً من »المعتدلين« من جماعة حزب »العمل« والتيارات المنسوبة إلى اليسار.
إن المذبحة أساس لدولة إسرائيل.
ولأنها في صلب العقيدة فإن الإقدام عليها لا يأتي كرد فعل على »المقاومة«، بل هو فعل ترويع لمنع المقاومة ودفع الناس إلى الخروج من فلسطين والتبرؤ منها (هل كانت مذابح صبرا وشاتيلا، بعد انكسار المقاومة الفلسطينية وترحيلها من لبنان، عملاً عسكرياً تبرّره الضرورة، أم كانت محاولة لاجتثاث فلسطين من ذاكرة أهلها وسائر العرب؟!).
ثم إن التطهر من جرائم الإقدام على ارتكاب المجازر بدم بارد لا يكلّف أكثر من تظاهرة حاشدة تنظم في شوارع تل أبيب، وتنقل صورها أجهزة الاعلام العالمية لتوكيد الديموقراطية في إسرائيل ولغسل يديها من الدم المراق، ولتبرئة ذمة »الدولة« بإدانة شخص أو بضعة أشخاص بجرم »التقصير«، حتى إذا مرّ من الزمان ما يكفي للنسيان صعد المرتكبون إلى قمة السلطة بوصفهم أبطالاً، بل وكُلفوا بمفاوضة الفلسطينيين، مع أنهم هم!! يرفضون مصافحتهم والجلوس معهم.
والعرب، فلسطينيين كانوا أو من »جنسيات أخرى«، هم الهنود الحمر الجدد: من يرحل ينجُ بنفسه، ومن يبقَ فله السيف.
ولن تتوقف إسرائيل طوعاً عن ارتكاب المجازر؛
معنى ذلك أن تكون قد غيّرت طبيعتها فباشرت رحلة الاندماج ومن ثم الذوبان في المنطقة.
وذلك مرفوض إسرائيلياً، ومَن يقُل به يلقَ مصير رابين.
لا نسيان. لا غفران.
فالغفران لا ينبت خارج أرض فلسطين.
(من مقدمة لكتاب جديد عن المجازر الإسرائيلية منذ 1948 وحتى اليوم)

رسالة إلى »نسمة«: لو خيّروني…
***
»تحية وبعد..
أعرف جيدا انه من الأمور المزعجة وصول رسالة إلى أحدهم، لا تحمل توقيعا مثل رسالتي هذه، لكن ربما كان عذري أني أكتب رسالتي هذه الى شخص مجهول هو أيضا، على الأقل على صفحات الجريدة، إنه »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب.
كان »نسمة«، الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب، جالسا على شاطئ المنارة لحظة الغروب. الطقس خريفي، ونسائم الهواء تخترق عظامه، رفع رأسه مستمتعا، متأملا البحر في البعيد. ودّ لو يحضنه، يلقي بنفسه في أعماقه. تذكر أنه يمكنه أن يفعل أفضل من ذلك. سحب أوراقه من جيب سترته وكتب:
»أعجب ممن في ذروة الوجد يهرب إلى التخيل.. حبيبك أجمل من خيالك، فخذه كله وأعطه كلك«
قرأها، ابتسم وهنأ نفسه، جملة رائعة يستطيع أن يقولها غداً لطلال سلمان لينشرها في هوامش »السفير«.
سناء، هي أيضا كانت على شاطئ المنارة لحظة الغروب، الطقس خريفي ونسائم الهواء تخترق عظامها. اقتربت أكثر من السور، أمسكته بيديها وتنشقت طويلا.. التفتت فجأة لتكتشف وجود »نسمة« خلفها.. اقترب منها سائلا:
تبدين عاشقة، أخبريني كيف ترين الحب؟
كنت عاشقة.
وكيف رأيتِ الحب؟
لمَ لا أخبرك كيف كنت أظن الحب؟
تفضلي.
كنت أظن، كما يقول »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب، انني سأصبح شاعرة.. وان الحب سيفتح عينيّ على الجمال.. ويعطيني شهادة جدارة بالحياة..
ثم..
أحببته، هكذا من دون أن أشعر. وحصل لي ما كان يقوله »نسمة«: »روعة الحب أن تقرأه كل لحظة في عيون الناس«، هكذا كنت، وهو أيضا كثيرا ما قال لي انه يريد لو يقول لكل الناس انه يحبني لكنه كان يشعر أنهم يعرفون من نظراته..
كان »نسمة« منتشيا بما يسمعه، إنها تحفظ كلامه، لم يكن مغرورا لكنه أحب أن يعرف رأيها ب»نسمة«، سأل متغابياً:
مَن هو نسمة؟
إنه أحد القلائل الذين ما زالوا يكتبون عن الحب في أيامنا هذه.. له فلسفة خاصة، يحكي عن الحب البناء، الذي يرتقي بالحبيبين، ألا تعرفه؟
لا. أكملي، ماذا حصل معك؟
كنت مسرورة جدا ب»نسمة« في البداية، لأني كنت أجد سعادة في قراءته حتى قبل أن أحب، كما كنت ناقمة على كل الذين اتهموا عصرنا بالمادي.. لكن غيّرت رأي.
كيف؟ (قالها بلهجة من فوجئ بما لم يتوقع).
تقدم لي عريس غني.. شقة وسيارة وأموال.. أخبرته، تضايق كثيرا. تلقيت ضغوطا كثيرة من أهلي..
لا تقولي..
دعني أكمل، تذكرت ما قاله »نسمة« مرة: طر بجناحي الحب إلى أعلى، إن لم تطر وقعت وذهب الحب إلى من لا يخاف من التحليق«، قررت أن أرفض.
ممتاز.
حبيبي، هو أيضا، وقع في خيار مماثل. ابنة خالته المقيمة في أوستراليا، تؤمن له الجنسية والعمل والمال.. أخبرني، قال لي: إذا بقينا سوياً أظلمك معي، أنا لا أملك شيئا ولا أعرف متى سأستطيع تأمين أبسط ما قد يطلبه أهلك: الشقة.
وافقت معه؟
إنه الآن في أوستراليا، أشعر أن »نسمة« هو المسؤول، كان يكتب مرة في الأسبوع، يعطيني الأمل أن ما أبحث عنه موجود، أن لا أيأس، ثم يأتي ليكتب أخيرا: »… مَن لم يحب مسكين، عبر في الدنيا فلم يترك فيها أثرا، وعاش مثل دابة. أما العاشق فإن الدنيا تسلمه نفسها وتعطيه الحياة لأنه يعطيها المعنى«، هل هذا كلام صحيح؟ العاشق يعطي للحياة أم أن الحياة هي التي تفعل؟
……….
العزيز نسمة:
جميل جدا ما تكتبه، فلسفتك بدت جميلة، فأنت لم تكتب خيالاً على غرار بيت الشعر الذي كنت أحبه:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
حاولت أن تكون واقعيا، لكن على ما يبدو ليس للحب مكان في حياتنا.
لا أطلب منك نصائح، ولا تحليلا لما حصل، الظروف دائما هي الأقوى، هذا مسلّم به..
ما أطلبه أن لا تقول »حبيبك أجمل من خيالك«،
أرجوك »نسمة«، إذا كنت لا تزال مصراً على الكتابة كل أسبوع، تخل عن فلسفتك في الحب. الحب جميل عندما يكون خياليا، مؤلم عندما يصبح واقعيا.
لو كنت مكانك لكتبت للأسبوع المقبل:
»قال لها »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أحبك كثيراً ولو خيَّروني بينكِ وبين العالم كله لما ترددت لحظة في اختياركِ.
قالت له: لو كنتُ مكانكَ لاخترت العالم وأعطيتك نصفه«.

من أقوال نسمة
**
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي أيقظ فيّ إحساسي بعظمة إنسانيتي. قبله كنت واحداً من ملايين، بل من مليارات، لا أتميز عن أي منهم بالكثير، مهما تكاثف عليّ الغرور. بعده صرت »أنا« المميز والمختار لذاته والذي يملك حق الاختيار. قبله كنت أهدر كثيراً من وقتي للتعرف الى ذاتي، بعده صرت أعرف الكثير عن العالم. لقد فتح أمامي أبواب الجنة التي اسمها الحياة.

Exit mobile version