تحولنا الى لا دولة، أو دولة فاشلة، ولا يأبه لذلك أركان الطبقة السياسية في لبنان. يقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيـًا.. ولكن لا حياة لمـن تنادي
بيت الشعر أعلاه يناسب حالتنا وما نحن فيه، ولو استخدمنا كلمة حياء مكان حياة لكانت أنسب وأكثر ملاءمة.
الطبقة الحاكمة أمعنت في تجويف الدولة؛ حولتها الى فراغ. أداة الحكم هي الفراغ. معظم سنوات العقود الماضية مضت في الفراغ، سواء كان رئاسياً أم حكومياً أم في الأجهزة البيروقراطية أم مصرفياً؛ ذلك فيما عدا الأجهزة الأمنية والمجلس النيابي الذي لا يجتمع إلا في المناسبات. طريقة حكم فريدة في العالم؛ ربما كانت فرادة لبنان تعود إليها.
تغيّر معنى الفرادة من ثقافي الى سياسي في هذه المرحلة. والسياسة في لبنان لا تعني ممارسة السلطة وانجاز شيء ما بل عدم ممارسة السلطة والامتناع عن ممارسة أي شيء. شعوب أخرى تدعي الفرادة أي التمايز عن غيرها بانجازاتها. الفراغ في لبنان مصدر الفرادة. الدولة صارت لا دولة، وكثير من الشؤون والأمور انقلبت الى عكسها، فصارت أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها.
الأساس في تجويف الدولة وقلبها من دولة الى لا دولة هو إلغاء السياسة، وتحويل التفاوض من أجل التسوية وتراكم التسويات الى حوار حول موقف أو رأي. ونرى أحد الفرقاء يدعو الآخرين ليس الى التفاوص بين آراء مختلفة ومواقف مختلفة لإجراء تسوية يتنازل فيها كل فريق عن جزء مما يعتقده صواباً بل الى مناقشة حول موقف أو رأي واحد دون اعتبار لمواقف الآخرين، لأخذ قرار نهائي لا يكون تسوية بين مواقف مختلفة بل يدور حول موقف أو رأي الطرف الأقوى، بمعنى أنه مسموح للآخرين أن يناقشوا رأي الأقوى دون أخذ مواقفهم بالاعتبار. فكأن فريقاً يقول موقفنا هو الصواب ونحن على استعداد لمناقشتكم، أو ما يسمى الحوار، لكن أي أمر آخر، بما في ذلك مواقف وآراء الآخرين، لن تؤخذ بالاعتبار. بذلك يدور الجميع حول موقف واحد ولا يكون للأمر علاقة بين أنداد لهم الحق في أن يكون لهم رأي وموقف كغيرهم. هناك فرق كبير بين التفاوض والحوار. في الدول الاستبدادية، يحاور الطغاة الآخرين لكنهم لا يفاوضوهم. يفترض التفاوض ندية يفتقر إليها الحوار.
السياسة علاقة أفقية، الاستبداد علاقة عمودية تتدفق فيها المواقف من الأعلى الى الأدنى، والحوار دائري حيث يدور الجميع حول مركز ترجع إليه الأمور. تلغى السياسة عندما يكون الحوار دائرياً، بل هو يشابه الاستبداد حيث العلاقات العمودية. كل أنواع الحوار غير السياسة الأفقية هي في جوهرها استبدادية، حيث يكون لفريق ما الأفضلية حتى ولو لم يكن يملي مواقفه صراحة وعلانية.
يعيش لبنان حالة استبداد سلبية. لا يستطيع الفريق القوي فرض وجهة نظره لكنه يمنع أي وجهة نظر أخرى من السلطة، أو عن أي قرار أساسي؛ لذلك يعيش البلد حالة شلل في أجهزته جميعها ما عدا الأمنية منها، وهذا ما مؤداه تجويف الدولة. وكأن التعطيل يُفرض بانتظار أن يأتي الحل من مكان ما خارج لبنان. الاستبداد يكون دائماً فاقد الشرعية لذلك يتحالف مع قوى خارجية لفرض نفسه على شعبه. ما زالت الدول العظيمى تتدخل من أجل انتخاب رئيس، لكن الدولة العظمى لم تتحرك لتتفاهم مع أصحاب فائض القوة، لوضع أسس الحل النهائي ولو مرحلياً. ولو مارس أطراف الطبقة الحاكمة الطائف لكانوا توصلوا الى شيء ما. لكن ذلك يتطلّب الكثير من الجرأة المعنوية.
يصعب التصديق أو الاقتناع بأن الطبقة الحاكمة لا تعرف مدى حراجة الوضع اللبناني، إلا إذا كان يراد اهتراءً بطيئاً وصولاً لقضم المناصب الرئيسية تدريجياً. إن كمية الاغتيالات والتفجيرات تجعل من غير الممكن الاقتناع بأن أحداً في لبنان في عداد الطبقة الحاكمة لا يعرف مدى الأضرار اللاحقة بشعب لبنان من جراء ما يجري، لكنهم بانتظار شيء ما من طرف ما خارجي، ويعتبرون أن على الشعب اللبناني الانتظار، وعليه أن يفرح لكثرة الوافدين الى لبنان هذا الصيف للسياحة. لكن تجويف البلد من السياسة سيجعل رتق الخروق أصعب كلما طال الزمن. فهل ينتظرون حالة طوارىء ما؟
إن فداحة الأحوال التي مرت بلبنان منذ 2005 بل قبل ذلك، من اغتيالات وثورة تشرين وسرقة المصارف لودائع اللبنانيين، ووحشية انفجار مرفأ العاصمة، وتدمير ما حوله من بيروت وغير ذلك، تجعل العقل يرتج. وعلى الرغم من ذلك ما زلنا لا نعرف من فعل ماذا. فكأن التعمية هي السياسة الأساسية للطبقة الحاكمة، خاصة وأن التلاعب (كالاغتيالات والانفجارات) بحياة اللبنانيين فرض عدة اسعار للعملة، حتى أصبح العامة لا يثقون بشيء يقوله أهل السلطة. تعمية مقصودة وتكاذب موصوف، يبعثان على الخبل والهبل ودوران الرأس. اللبنانيون أذكى ويعرفون أكثر من الذين يُخطّطون ويُقرّرون مصيرهم، لكن سياق الأمور، إن كان لها سياق، يزيد التعمية عمى، والأصوات ترتفع في سبيل الفيدرالية من ناحية، وتطبيقها كأمر واقع من ناحية أخرى.
تكرست اللادولة حتى أصبح الرجوع الى الدولة أصعب كلما مر الزمن، إذ تتولد عادات وتقاليد جديدة تتمكن من سلوك الناس، وكذلك مصالح محلية لن تندمج مع الدولة. على سبيل المثال، سيناضل بشدة أصحاب مولدات الكهرباء في القرى والأحياء ضد عودة الكهرباء المركزية.
لم يبق من الدولة إلا الجيش والأجهزة الأمنية. ولا نعرف الى أي حد يسلمان من عادات اللادولة. ومن المعلوم أن تجويف الدولة من السياسة يضع على عاتق الجيش مهمات صعبة. عادة في البلدان الأخرى ينفذ الجيش الى السياسة من خلال إلغاء السياسة.
انهيار العملة الوطنية حصل والوضع الاقتصادي يتجه نحو الأسوأ برغم استفادة بعض القطاعات الشرعية وغير الشرعية، لكن تجويف الدولة هو الانهيار الأكثر خطورة. ليس أكيداً أن “دهاقنة السياسة” في لبنان يستطيعون أو يريدون العودة الى الدولة. لكن الأكيد هو أن هذه العودة ستكون مهمة شبه مستحيلة.
في التسعينيات الماضية تحدثوا عن العبور الى الدولة، وقد عبر البلد، لكن الى اللادولة. حدث ذلك عبر تجويف الدولة وإلغاء السياسة ومنهج القضم.
إن تعويد اللبنانيين على اللادولة والتعايش مع سفالات الطبقة الحاكمة لا يعني أن اللبنانيين شاطرون في تدبير أمورهم مهما كانت الظروف، لكنه يعني أنهم رضخوا لاستبداد من نوع فريد يجعل لبنان بلدا فريداً.
هي استثنائية مبتذلة ليس فيها انجاز من أي نوع، بل هي نوع من السادية التي يمارسها الأقوياء على الضعفاء أو الصفوة على العامة. غريب كيف انقلب اللبنانيون من الثورة الى المازوشية كي يقبلوا بما يجري دون كبير احتجاج أو ممانعة. الأغرب هو كيف يبقى المجتمع منتظما في اللادولة والنواحي الأمنية على شيء من الاستقرار.
مجاعة الحرب الكبرى (الحرب العالمية الأولى) أنتجت لبنان، فهل سوف تنتج اللادولة لبناناً جديداً؟
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق