زرتها طفلا في رحلات مدرسية ليلعب ويلهو مع أقرانه تحت رقابة المدرس المشرف على الرحلة. لا أذكر عدد هذه الرحلات، ربما كانت بعدد السنوات الدراسية في المرحلة الابتدائية وعدد الرحلات العائلية التي كان الوالد ينظمها مع أقرب أصدقائه وأشقائه وزوجاتهم وكل أولادهم، وكانت أمي تستعد لهذه الرحلات بالعمل في المطبخ لساعات خلال الأيام السابقة على موعد الرحلة. خمنت من إحدى الصور، وبالتحديد من صورة أجلس فيها أمام أمي، أن الرحلة ربما وقعت قبل دخولي مدرسة أو على الأكثر في سنتي الدراسية الأولى.
أما كيف ذهبنا وكيف عدنا فلم أعثر بعد على أحد، على كثرتهم في الصورة، ما يزال بين الأحياء ليدلني على حقيقة معلومة من هذا النوع. أستطيع أن أقر أننا استخدمنا ركوب النهر وسيلة جمعت بين وظيفتين، كل منهما أهم من الأخرى، النقل والنزهة الممتعة. هي الوسيلة نفسها التي استخدمها منظمو رحلاتنا المدرسية.
***
أعترف أنني ما زلت أحن إلى حالة المرح والسعادة، الحالة التي كانت تغمرني خلال رحلات النهر ولم تتكرر في رحلات أخرى. وقعت مبكرا في حبه، حب ولد كبيرا وعاش يكبر في داخلي. شعور تجاه هذا النهر لم يفارقني وأنا أركب الراين في ألمانيا أو البارانا في الأرجنتين أو الميسيسبي في لويزيانا. هو النهر الأجمل والأنقى، وهو الوفي المخلص والأدق في مواعيده. وقبل كل هذا وذاك هو الوحيد بين كل أنهار العالم الذي يبادلني الحب وربما بأكثر منه.
***
عدت إلى القناطر مرارا. عدت إليها مرتديا ملابس الكشافة وحول رقبتي يتدلى منديلي الأحمر دليل تخرجي من مرحلة فريق الأشبال وانضمامي إلى فرق الكشافة. أقمنا معسكرات هناك، نقضي فيها الليل ونتجول في أنحاء القناطر بحثا عن عجوز أو طفلة تبحث عن أهلها أو تلميذ ضاع عن فريق مدرسته أو عاشقة ألهاها الحب عن موعد البدء في رحلة العودة أو أستاذ عرف كيف يصل إلى مسجد القناطر ليصلي الجمعة ولم يعرف كيف يعود إلى رحلة مدرسته. تعين علينا بإرادتنا الحرة وحماستنا لتأدية الواجب أننا قبل أن نغادر المكان الذي أقمنا عليه معسكرنا أن نتركه أنظف مما كان.
عدت إليها وأنا طالب في الجامعة. عدت ضمن مجموعة من الناشطين في مجال الجغرافيا ورسم الخرائط وعلاقة النهر باليابسة، كل منهما يعرف تماما حاجة الآخر له، يعرف النهر متي يتقدم ومتى ينحسر. وتعرف اليابسة كيف تستقبل النهر وهي متعطشة وكيف تودعه وهي في أبهى حلة، ومن حولهما من يعزف لهما أحلى النغم. الكل يودع وفي قلبه لوعة الفراق مختلطة بأروع الأحلام، حلم عودته. اعتدنا العودة إلى القناطر في نهاية موسم الربيع فريقين، فريق يصل مشيا على الأقدام والآخر يشتغل في إعداد ما يلزم لإطعام فريق المشي فور وصوله وقبل ركوب باخرة العودة. هنا، وفوق المركب، يدور الحوار الأكاديمي عن استفادة الفريقين من التجربة وملاحظاتهما على الجديد في جغرافية المكان ومستوى الاعتناء بالحدائق.
اتصل بي في مكتبي رئيس تحرير الأهرام متمنيا أن يسمح وقتي بمشاركة مشوار معه إلى القناطر. كان دقيقا كعادته في تناول الأمور الدقيقة. انتظرت توضيحات أو إضافة. جاءت في شكل فرصة متاحة لي للتحدث مع الرئيس أملا في إزالة الفجوة بيننا. ظهرت أمام كلماته غير متحمس. الرجل غاضب بسبب مقال كتبته مس مشاعره بالضيق وربما الغضب. أضاف رئيس التحرير بأن عودة الرئيس عن الغضب ضرورة حتمية إن كنا نريد علاقة أرحب تسمح بتحقيق تطلعات وأهداف. لم أعلق طول الطريق إلى القناطر وهناك في القاعة سلمت باليد مثل الصحفيين الكبار المدعوين. كان سلاما باردا حتى أنه أثار ببرودته رعشة في كل أطرافي شعر بها رئيس التحرير الواقف إلى جانبي. همس في أذني.. “أرجوك حافظ على برودك المعهود حتى نخرج من هنا”.
اقتربت من أذنه حتى لا يسمعني سائق السيارة رغم كونه محل ثقتنا. “ضحكت عليا وقلت رايحين القناطر. أنا في الرحلة دي مشفتش غير دوار ريفي عادي وكراسي كتير وصحفيين بعدد الكراسي، ورئيس غضبان من روسيا ومن كل الصحفيين والإعلاميين”.
***
بقيت القناطر، رغم هذه الزيارة، ذكرى باقية لأحلى أوقات قضيتها مع أحلى الناس، بقيت أيضا شاهدة على أروع علاقة قامت بين طفل ونهر، علاقة ترعرعت في شموخ بفضل ما قدماه لها على مر العقود من عز وحب. الطفل تغير وصار مراهقا والمراهق تغير وصار رجلا والرجل تغير وانحنى قليلا تكريما للزمن وصار كهلا. أما النهر فقد بقي بعنفوانه مخلصا لسيرته، لا يتغير.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
