طلال سلمان

القلم الأخضر في غيابه العاشر

يشع القلم الأخضر في غيابه كنجم لا ينطفئ، فهو راسخ كأستاذ، كصديق، كعاشق، كمعشوق، كمبدع أعطى الصحافة أكثر مما أخذ منها، تماماً كما أعطى العديد من الأصدقاء أكثر مما أخذ منهم وعنهم.

ولقد عرفت ثلاثة من جوزف سماحه المتعدد: الزميل والصديق رفيق العمر والكاتب المميز ثقافة وأسلوباً.

وأعترف أنني، على امتداد علاقتي متعددة المراحل بين 1973 و2006 مع جوزف الحاضر برغم الغياب لم اعرفه كله.. فهو في العمل غيره خارجه، وهو في الكتابة غيره كقارئ نهم، وهو في الليل غيره في النهار، وهو على البعد غيره في القرب، وهو مع النساء غيره مع الرجال، وهو مع الكتب غيره مع الصحف، ولكنه في الحالات جميعاً طالب المعرفة الذي لا يتعب من طلب المزيد، المستمتع بحياته في قلب الصعوبة وهموم العائلة التي حدد علاقته معها بطريقة مغايرة لعلاقته مع الآخرين.

لقد جاء جوزف سماحه إلى “السفير” في المرة الأولى شاباً شديد الحماسة، حزبياً متعصباً لخليط من العروبة والماركسية ليس موجوداً عند الشيوعيين ولا عند القوميين العرب. ولقد أفاد من تعاظم ثقافته في بلورة مفهوم العروبة باعتبارها تعني التقدم مع توكيد الهوية وليس على حسابها وان فلسطين عنوان ثابت لها، وان جمال عبد الناصر احد أخطر من بلور الفكر بالانجاز السياسي ودمج المنحى التقدمي بلا تعصب مع الفكر القومي بالممارسة العملية التي هي أغنى من التنظير وأبقى.

كان رفيقاً وصديقاً لحازم صاغية على اختلاف في السياسة، فجوزف ثابت وحازم متحول، وكان الاثنان يبشران بمبدعين مجددين في الفكر السياسي كما في الكتابة، وإن كان واضحاً أن الصحافي في جوزف يوازي الكاتب بينما الكاتب في حازم يتقدم على الصحافي.. ومن هنا فقد توثقت علاقة جوزف بالمـعلم ابراهيم عامر، الذي أخذنا عنه جميعاً احترام شرف المهنة وضروراتها ومواقيتــها، احتــراماً منا للقارئ، وهو رب عملنا الفعلي جميعاً.

أما جوزف الثاني فقد عاد إلى “السفير” بعد هجرة بالرغبة، إلى باريس، بعد الاجتياح الإسرائيلي في صيف العام 1982 ليظل إلى جانب المقاومة الفلسطينية التي أخرجها العدو الإسرائيلي من لبنان، وقد أغنى ثقافتة بتجربة الإقامة الطويلة نسبياً في فرنسا، يقرأ أكثر مما يكتب، ويتابع الحياة الثقافية والفنية، والأخطر: انه يشهد من خلال “اليوم السابع” مع رفيقنا معا في “السفير” بلال الحسن، التحولات السياسية التي نزلت بالقضية الفلسطينية من موقعها شبه المقدس إلى حلبة المناقصات والمزايدات التي سُحبت إليها منظمة التحرير على حساب القضية المقدسة فأوصلت إلى أوسلو واتفاق السبع ساعات التي حلت أخطر قضية وطنية – قومية- دولية- إنسانية في العصر الحديث، على حد ما ادعى بطل أوسلو: بمكالمات هاتفية عبر المحيط!

مع جوزف الثالث الذي كان قد عاش تجربة مختلفة في جريدة “الحياة” في لندن، ثم في بيروت،جاء جوزف سماحه إلى “السفير” وقد اكتمل نضجه، وتعزز وعيه السياسي بتجربة ثقافية ومهنية غنية أهلته لان يكون رئيسا للتحرير.

ولقد تنازلت له عن موقعي البديهي بطيبة خاطر، وارتضيت أن أتحول إلى “ناشر”، وهي ليست مهنتي، لكي تكسب “السفير” كفاءة في مثل ثقافة جوزف سماحه وغنى تجربته المطعمة الآن بخلاصة ما استوعبه من تجارب المدرستين الفرنسية والبريطانية في الصحافة.

كان التنازل من اجل “السفير” وتحديثها، خصوصاً وأننا كنا غارقين في بحر التفاهة والعبثية التي يموه بها أهل السياسة في لبنان خداعهم للناس عن طريق إشغالهم بالطائفية والمذهبية بعيداً عن هموم حياتهم المثقلة بالزعامات التي تحجز الغد خلف معاركها الوهمية التي تحقق لهم المكاسب المالية وتجعلهم يتحكمون بالمناصب القيادية ويختارون للانتخابات النيابية القانون الأكثر تخلفاً والذي يجمد حركة تطور المجتمع، فيلبس”المواطن” وقد مسخ إلى “زلمه” احدث ما أنتجته بيوت الموضة ثم يندفع للعراك إذا ما سمع نقداً لزعيمه يرى فيه تعريضاً بمذهبه.. وهو من الدين براء!

ولقد نجح جوزف سماحة المعزز الآن بمعرفة واسعة نتيجة المتابعة والانتباه إلى الجديد، في إضافة صفحات جديدة ومبتكرة إلى “السفير” تتصل بحياة الناس واهتماماتهم بعيداً عن السياسة والأخذ بالجديد، فأضاف صفحات للشباب والتحقيقات وعزز الثقافة والعلوم و”صوت وصورة” لمجاراة عالم المرئي والمسموع.

أما جوزف الرابع الذي انسل خلسة من “السفير” ليذهب إلى حيث افترض انه سيعطي أكثر، مرتاحاً من “أستاذه الذي علمه السحر” فقد أبدع في إنتاج مجلة في جريدة جمعت كثيراً من كتاب “السفير”ومحرريها، وأضافت إليهم سحر جوزف سماحه المعزز بكفاءة مخرج كاد أن يكون شريكاً في إنتاج “الأخبار”، وفي ظروف أكثر راحة وبحبوحة من حال “السفير” وهي توشك أن تدخل عقدها الرابع مثقلة بالديون وترسبات الحروب التي عاشتها فخاضتها وكان بديهياً أن تصاب بخدوش وجروح بعضها خطير وبعضها الآخر اخطر لأنه بالدولار!

لقد خسر لبنان، وخسرت الصحافة العربية، مع غياب جوزف سماحه قلماً أخضر مضيئاً فكراً وثقافة وموقفاً لا يقبل التشكيك..

كذلك خسر جيل كامل من الصحافيات والصحافيين معلماً مميزاً في سعة افقه وغنى تجربته، واستمتاعه بموقع المحبوب أكثر من المحب والمعشوق أكثر من العاشق، وان ظل القارئ الذي يعادل المقروء، ولو على حساب ساعات النوم اعتماداً على قاعدة “ولا يقصر في الأعمار طول السهر”.

في كل يوم نفتقدك مرات يا أبو الزوز، أيها القلم الأخضر..

وأنت في “السفير” برغم غيابك وغيابها.

عوضنا الله عنكما يا رفيقي العمر،

وتظل “السفير” التي حملت لسنوات اسمك، أغلى ما في العمر.

*كلمة ألقيت في الذكرى العاشرة لرحيل جوزف سماحة في 24/02/2017

Exit mobile version