طلال سلمان

القلب إذا تحسر

أشكو لك رجلا من جنسك ولكنه لا يشبهك في شيء. هذا الرجل تزوجته قبل عشر سنوات ولعلمك يا صديقي الأقرب كنت أنت وبشكل غير مباشر عنصرا ساهم في التمهيد لهذا الزواج. لا تجزع فأنت لم تقابله بل ولم تُدعَ لحفلات ولا لغيرها من مناسبات العرس ولكنك كنت حاضرا بالسمع. كنت أحكي لك أولا بأول التفاصيل غير الحميمة لفترات التعارف ثم مراحل الخطوبة. توقفت عن زيارتك عند انتقالي إلى بيت الزوجية. ابتعدت عنك ولدي أسبابي وأنا هنا اليوم لتسمعها مني قبل أن تسمعها عني.

عد معي من فضلك إلى ما قبل السنوات العشر. جرت العادة التي استنتها بنفسك أن نقضي فترة بعد كل اجتماع نتبادل فيها الروايات عن الصعاب التي تواجهنا في حياتنا الخاصة ونحاول مجتمعين المساهمة في تذليلها. أذكر أن تفيدة، زميلتنا في المكتب، كادت تكون الشخص الوحيد في هذه المجموعة الذي لا يشكو من متاعب أو من مشاكل استعصي حلها. احترنا في أمرها إذ أنها كانت بالفعل تتميز بامتلاكها طاقة هائلة من الرغبة في حل مشاكل الزملاء وفي الوقت نفسه تصر على أن حياتها خالية من المشكلات. وبالفعل كانت رفقتها السلسة والناعمة في العمل نموذجا تتمناه مجموعات العمل الأخرى.

عشت، ولا شك تذكر، سنوات صعبة. حكيت لكم وقتها عن بعضها في صيغة الشكوى المرة كيف كانت عائلتي تتفكك تحت ضغوط عديدة. لم أذق طعم حنان الأب وانشغلت أمي عني بمحاولاتها إنقاذ زواجها وتدبير مصروفات مدرستي وبيتها. حرمت في طفولتي من متع عديدة. أظن أنني لم أعش لحظة واحدة في حضن أمين. تعرفت على أحضان كثيرة، أحضان عابرة وأحضان قسرية وأحضان مجاملة، كلها قصيرة وجافة  تخلف وراءها ولدقائق كثيرة أعصابا نافرة بالغضب أو بالفضول وأغلبها كالقبل العنيفة أو أحادية الطرف تترك في الحلق مرارة تأبى إلا أن تبقى. رجل البيت والدا كان أم زوجا كانت شيمته اللامبالاة وفي الغالب الإهمال. عانيت من الصفتين اللتين دفعتا أمي إلى التعنت في تربيتي.

حرمتني من الاختلاط خارج البيت بزميلات المدرسة ثم بزميلات وزملاء العمل. كانت تقضي ساعات تمتحن بذكائها المحدود حصيلتي وما استجد عليها من معلومات عن الآخر، أقصد عن الصبيان ثم عن جنس الرجال. كرهت الصنف من العيش مع أب وأم متكارهين ومتنافرين وأحيانا كثيرة متشابكين بالأيدي. ليال عديدة قضيتها في فراشي أبكي، وفي الصباح آتي إليكم في المكتب وهالة السواد تحت عيناي لا تخطئها عيون الزملاء وبخاصة تفيدة التي كانت تطلب مني اصطحابها إلى الحمام وهناك تتولي مع بعض مراهم وألوان التجميل تحسين ما أفسده البكاء.

نعم هي تفيدة التي أقنعتك بأن لا حل لمشكلتي إلا بالزواج. زواج يخلصني من عذابات العيش في بيت أمي وأبي. أقنعتك أيضا بضرورة البحث معها عن رجل يصلح زوجا لي. كانت واثقة من أنني بمفردي وبدون مشاركة قوية من جانبكما معا لن أعثر على الشخص المناسب.  كانت تفيدة تعرف أنني غير مؤهلة للقيام بهذا البحث. كانت تقول عني أنني أشك في أمانة يد رجل تمتد لتصافحني وفي صدق لسان رجل يحاول أن يخاطبني وأشك في طهر أي رجل يقترب مني. لعلك تذكر أنك وافقت بلا تردد على قولها، قول تفيدة، عن أن ظروفي العائلية والنفسية تدهورت إلى درجة لم تعد تحتمل عندها الاستمرار في الوضع القائم أو تأجيل التغيير.

عرفت فيما بعد أن تفيدة رشحت للزواج مني رجلا كان يزورك بين الحين والآخر وفهمت منك أنكما تلتقيان عادة مع آخرين في مقهي بحي من أحياء القاهرة. عرفت أيضا أنك أبديت ملاحظات عن الرجل كادت تجعلها تتردد في الترشيح. ذكرت مثلا أنه في تصرفات معينة لا يختلف كثيرا عن أبي. ذكرت أيضا أنه مادي التفكير وربما كان ممسكا في نواحي الإنفاق الترفية وأنك على كل حال لم تعرف عنه تاريخا يكشف عن ميل نحو الأدب والعلم. على الناحية الأخرى بدا لك في الوقت نفسه بسيطا عادي المواهب والطموحات. وفي النهاية توصلتما إلى قرار أنه الرجل المناسب لي في الظروف التي أعيش في ظلها والتي تزداد تدهورا. التقينا جميعا، كما تذكر، في كازينو قصر النيل وكان يوم جمعة وأبلغتكما بموافقتي يوم الأحد التالي مباشرة. أذكر بجلاء تام أنني كنت في ذلك اليوم منهكة الجسد متعبة النفس والعقل. كدت أكون أيضا فاقدة الثقة في أن المستقبل قد يكون أكثر رفقا بي وأقل تزمتا. آمنت وقتها بأن حظي في الحياة خطته أياد استهانت بحقي في أن أحيا حياة كريمة وواجبي أن أتقبل بالرضا أو بغيره كل ما ترميه الأيام في حجري. اقتنعت بأنكم بحكم الضرورة التي فرضتها ظروفي اخترتما الرجل المناسب فتزوجنا.

نعم وافقت وتزوجته. تجاهلت مثل غالبية فتيات مصر مسألة الحب كشرط من شروط زواج ناجح. أصارحك القول، وقد صارحت به الزميلة تفيدة في حينها، أنني تزوجته لأنكما اخترتماه ولأنني لم أحلم يوما بالحب ولأنني أيضا اقتنعت بفكرة الضرورة في مثل حالتي. عشنا معا مرحلة الضرورة ويهمني أن تعرف أن وجوده خلالها كان لازما. يهمني أيضا أن أعترف أنه ما أن انتهت المرحلة حتى بدأت أشعر بحاجتي إلى ما تنازلت عنه احتراما لدواعي الضرورة وأسبقيتها. صحيح أنه استجاب بجد واجتهاد لمواجهة الظروف الأشد ضراوة في حياتي وقتها ولكنه لم يتمكن من إطفاء جذوة جمرة نشأت وتراكمت عواطفها ورغباتها في ظل هدوء ما بعد ظروف الضرورة. تركته يفعل بالبيت ما شاء أن يفعل. اختار لحوائطه الألوان ولم يستشرني. انتقى لخدمتي خدما ولحمايتي حراسا ثم كلفهم بأن يحسبوا عدد خطواتي ويسجلوا تحركاتي. وضع لي خرائط طريق لا أتجاوزها ونسج حولي ومن أجل تسليتي شبكات اجتماعية لا يحق لي تجاوزها أو تغييرها. راح بعد قليل وبين اللحظة والأخرى يختبر مشاعري تجاهه ليكتشف أنها سلبية فتصيبه الدهشة. ألم يكن البطل في حياتي الجديدة؟. ألم يكن مبعوث العناية الإلهية المكلف بإنقاذي من ظلامية وقسوة حياتي الأولى؟. ألم يكن رمز ما هو آت؟.

ها أنا أعود إليكما أنت وتفيدة بعد أن زالت الضرورة. عدت لأحمل لكما خبر نضوجي ولأنقل لكما ولكل الدنيا حاجتي إلى الحب.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version