يجري الحديث عن القدس، أحيانا، وكأنها مجرد أضرحة لبعض أولياء الله الصالحين، أو مجموعة من الأنصاب والمزارات والكنائس والمساجد ذات العبق التاريخي، معلقة في فضاء المكان وفضاء الزمان خارج المدار الإنساني المثقل بالصراعات والأغراض السياسية والمصالح المتشابكة للدول والشعوب.
وثمة مفارقة ملفتة، بل جارحة:
فأورشليم الإسرائيلية هي عالمياً داخل السياسة حتى العظم، وإن هي انطلقت من الخرافة التوراتية، ذلك أن السلاح يسند الادعاء فيكسبه بقوة الأمر الواقع “منطقاً” لا يملك العالم أن يرفضه.
أما القدس الفلسطينية (العربية) فهي عالميا خارج السياسة وإن ظلت داخل الإطار الديني بشكل ما، على أن قداستها لا تعطيها هوية منفصلة بل ومتناقضة مع الكيان الصهيوني،
إن القول بقداستها فقط إنما يطلق لنفي هويتها الوطنية والقومية.
فالمزارات والأضرحة والكنائس والمساجد يمكن أن تكون مصانة ومحفوظة بالشرطة الإسرائيلية، وهذا يضفي شيئا من الإثارة على المنظر السياحي فيمكن بيع التاريخ، بالماضي والحاضر، في صورة واحدة!
الطريف إلى حد الإدهاش الصاعق أن “العالم” يقبل من الإسرائيليين منطقاً يدمج الدين والوطن والدولة، المكان والزمان، في مدينة واحدة كانت (؟) وستظل العاصمة الموحدة والأبدية لدولة إسرائيل،
أما مع العرب فالقدس تتحول إلى مجموعة أحياء ومزارات ومواقع مقدسة تتوزع على الأديان، ومن ثم على الطوائف والمذاهب و”القوميات”، فتسقط عنها حقيقة أنها “مدينة” ذات هوية وطنية قومية محددة، ويُسقط عنها تاريخها الإنساني وعلاقتها بأهلها الذين ظلوا على مر الزمن أهلها ومواطنيها.
تغدو أورشليم الإسرائيلية التي لم تكن يوما حقيقة تاريخية حاضنة تاريخ من كانوا على مر التاريخ خارجها.
أما القدس الفلسطينية فتفصل عن أهلها الذين استمروا على التاريخ أهلها، وتنكر عليها كمدينة هويتها الأصلية.
أورشليم الإسرائيلية تصير عاصمة للغرب كله، مزينة ببعض الحلى المذهبة والمطعمة بعبق البخور وسائر التقاليد والطقوس التي اشتهر بها الشرق!
أما القدس الفلسطينية ـ العربية فليست أكثر من مكان أكسبته المصادفات التاريخية، والغياب الإسرائيلي، شيئا من القداسة فبات مزارا للمؤمنين الذين لا تعترض إسرائيل على أن يجيئوها سواحا للحج أو للزيارة مما يزيد في دخلها من السياحة.
إذا صارت القدس خارج السياسة، وتحولت فعلاً إلى أضرحة أولياء وكنائس ومساجد الخ، صار من حق الفاتيكان أن يطالب برعاية المقدسات المسيحية فيها، وصار من حق الأزهر (؟) مثلا أو “شريف مكة” أو هاشمي عمان أن يطالب برعاية المساجد والأوقاف (؟) الإسلامية فيها..
الدولة إسرائيل، أما سدنة المساجد والكنائس فلا بأس في أن تعينهم السلطات الروحية المعنية لرعاية الأماكن المقدسة داخل أورشليم الإسرائيلية!
أي يتم تفتيت القدس العربية بعدد الأديان والمذاهب والطوائف الإسلامية والمسيحية، بينما يتم تكريس وحدة أورشليم الإسرائيلية باعتبارها عاصمة الدولة الوحيدة القائمة على الأرض المقدسة!
كأنما لم يكن للقدس أهل أو هوية.
إذا خسر الفلسطيني “هويته” من أجل أن يستعيد بعض أرضه “التاريخية”، فإن “القدس” ستكون عنوان الخسارة،
فلا قدس بلا فلسطين، ولا فلسطين بلا الفلسطينيين.
بديهي، بالمقابل، أن لا فلسطين بلا القدس.
لا “الدولة” العتيدة التي يريدها صاحب “السلطة” ليغدو رئيسا شرعيا، تعوض عنها،
ولا الإقرار بحق بضع مئات من اللاجئن بالعودة إلى بعض من أرضها (وأهلهم) فيها (لأسباب إنسانية، وتحت عنوان جمع الشمل) يمكن أن يستحضر شيئا من تلك الفلسطين التي أكسبتها دماء الشهداء المعاصرين المزيد من وهج القداسة التي كانت لها ثم تزايدت على مر التاريخ.
فهذه المدينة تكاد تكون الوحيدة في العالم التي ظل يغسلها الصراع عليها ومن حولها بالدماء، مرة كل قرن أو قرنين، من غير أن ينجح أي غاز أو مستعمر في اقتلاع أهلها منها وطمس هويتها الأصلية كإحدى ركائز هذه الأرض العربية.
القدس بأهلها. القدس بهويتها.
القدس بالأحياء من البشر فيها كما بالمقدسين من السابقين.
ولولا أهلها لما بقيت مزارات وكنائس ومساجد وأضرحة للأولياء.
***
لن تكون “القدس” تلك الضاحية التي تعرض على صاحب السلطة، مع ممر يوصله إلى المسجد الأقصى للصلاة فيها.
لا أحد يريد القدس مسجداً للصلاة.
القدس مدينة للحياة، وأهلها يستحقون الحياة فيها، بهويتهم الأصلية… وبعد ذلك لهم أن يقرروا متى وكيف وأين يصلون فيها.
نشرت في “السفير” في 4 آب 2000