طلال سلمان

الفرنسيون يتغيرون

صعب تصديق أن الساحة السياسية الفرنسية بمعالمها الشهيرة تغيرت خلال أسابيع معدودة. جرت انتخابات تمهيدية في تقليد واضح وعلني للتجربة الأمريكية. تنافس المرشحون من الحزب الواحد في انتخابات تمهيدية. إلى هنا يفترض أن تنتهي التجربة الأمريكية وتعود الانتخابات إلى تقاليدها الفرنسية حين يتنافس  الفائزون من كافة الأحزاب ومن خارجها في جولة أولي يعقبها جولة ثانية.
عودتنا فرنسا في عديد انتخاباتها الرئاسية والتشريعية على احترام استقطابها الأساسي، فالقضايا في فرنسا تدور حول يمين ويسار والمرشحون ملتزمون عقيدة أحزابهم وتوجهاتها. حدث في هذه الانتخابات وللمرة الأولى أن يصل مرشحان يتنافسان على منصب رئيس الجمهورية لا ينتميان إلى أي من الأحزاب السياسية الأكبر. حدث شئ مماثل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة حين وصل الى المرحلة الأخيرة من الترشيح دونالد ترامب دون ترشيح من الحزب الجمهوري. لم يحصل ترامب على حق تمثيل الجمهوريين إلا بعد أن فرضت شعبيته نفسها على الحملة الانتخابية وعلى النخبة السياسية وفي النهايىة على الحزب الجمهوري.
أثار الانتباه  في انتخابات فرنسا هذه المرة أن كلا من المرشحين الذين فازا ووصلا إلى الجولة النهائية استخدم أساليب شعبوية في حملته الانتخابية مثل تلك التي استخدمها المرشح ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومن نوع الأساليب التي يستخدمها الرئيس فلاديمير بوتين. لا يفوتني الإشارة إلى أن كلا من ترامب وبوتين استقبلا السيدة ماريان لوبين رئيسة الجبهة الوطنية ولم يخفيا تشجيعهما لها. لا يفوتنا أيضا أن القضايا الرئيسة المطروحة في هذه المرحلة من الانتخابات تحتل مكانة متقدمة في اهتمامات الرئيسين الأمريكي والروسي. الاستقطابات الجديدة في الساحة السياسية الفرنسية بشكل عام وفي الانتخابات الجارية يشكل خاص تدور حول عولمة ورفض لها والاندماج في أوروبا الموحدة أم الانسحاب منها، وأخيرا حول أسبقية تركيز الاهتمام على المدن أم على الريف.

***

من هنا كثر الحديث عن الأهمية القصوى للجولة القادمة في انتخابات الرئلسة الفرنسية. فالرئيس القادم، إن كان السيدة لوبين فهي تتعهد أخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وإن كان السيد ماكرون فيتعهد دعم الاتحاد الأوروبي والعمل على تعويض الخسارة الناجمة عن خروج بريطانيا. تتعهد لوبين أيضا إقامة أسوار حماية جمركية والعمل إقليميا ودوليا على تحرير بلادها من اتفاقيات دولية تضر بالاقتصاد القومي، بينما يتعهد ماكرون بتسهيل اندماج  فرنسا في السوق العالمية.
من ناحية أخرى  يتوقع كثيرون دعما مباشرا لماكرون من جانب حكومة آنجيلا ميركيل في ألمانيا. فوز ماكرون يعني الكثير بالنسبة لألمانيا. يعني بشكل من الأشكال رد الاعتبار للاتحاد الاوروبي الذي ما زال يعاني من آثار صدمة البريكسيت. بل ويعني قوة أكبر للمفاوضين الأوروبيين الذين سوف يباشرون التفاوض في قضية تاريخية يترتب على مسيرتها نتائج تحدد مصير الاتحاد الأوروبي بأسره. فوز ماكرون على لوبين  يعني أيضا ضربة شديدة للتيارات اليمينية والقومية المتطرفة التي تهدد استقرار عديد الدول الأوروبية وتتعهد طرد مهاجرين ووقف هجرة المسلمين وإغلاق مساجد وتقييد حرية مرور الأفراد. الغريب في تطورات الأسابيع الأخيرة وقوف الرئيس الطيب أردوغان إلى جانب كل من الرئيسين بوتين وترامب لصالح الجبهة الوطنية، حين تعمد تعميق الوقيعة بين الأوروبيين حول قضية التعامل مع المواطنين من أصول إسلامية.

***

لا يمكن التقليل من أهمية فوز ماكرون في الجولة الماضية واحتمالات فوزه في الجولة القادمة. يحسب له أنه قاد معركة انتخابية جيدة في ظروف بالغة الصعوبة، يكفي القول إنه فاز وقد يفوز في النهاية رغم أنف كل من الرئيس ترامب والرئيس بوتين، وفي وقت يعاني فيه الفرنسيون من أخطاء عديدة تقع فيها بيروقراطية الاتحاد الأوروبي وفي وقت يقع الرأي العام الفرنسي فيه تحت ضغط معنوي رهيب نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد. فاز أيضا بالرغم من قوة الشخصيات اليسارية واليمينية المتطرفة التي شاركت في الجولة الأولي من الانتخابات، منهم مثلا هامون وجان لوك ميليشون في أقصى اليسار وفيون في أقصى اليمين. أتصور أنه من حسن التقدير رغم صغر سنه وقلة تجربته أنه اختار أن يتحرر من الأحزاب، فتخلص من أعبائها ومسئولية الدفاع عن فسادها وقلة حيلتها وسوء سمعتها، وبذلك استطاع أن يبدع ويجدد. إلا أن تخلصه من الأحزاب قد لا يطول لأنه سيتعين عليه في الانتخابات التشريعية التي سوف تجري بعد أسابيع قليلة تشكيل حزب أو ائتلاف أحزاب لمساعدته في تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها الناخبين.

***

هناك مبالغة في وصف ما حدث ويحدث في فرنسا بالتاريخي. جديد بالفعل أن يأتي إلى قصر الإليزيه رئيس لا ينتمي لحزب من الحزبين الرئيسين أو لحزب ما. جديد أيضا أن يفلح شاب صغير في اقتحام قلعة السياسة في فرنسا، القلعة التي تحرسها رموز متقدمة في العمر من نخبة يسارية ويمينية عتيدة وجذورها ممتدة إلى أعماق بعيدة في المجتمع السياسي والثقافي الفرنسي.
أشارك القائل بأن انتخاب الشاب ماكرون مرشحا محتملا  لرئاسة الجمهورية الفرنسية تكريم جاء متأخر لثورة ربيع 1968 وتأكيد لحاجة أوروبا الملحة للإصلاح.

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version