طلال سلمان

العرب في ظروف متغيرة

اتصلت، قبل سنتين أو أكثر، بالصديق على الدين هلال أعرض عليه فكرة تأليف كتاب جديد عن العالم العربي بعد مضي حوالي أربعين عاما على نشر الطبعة الأولى من كتابنا المشترك الذي حمل عنوان النظام الإقليمي العربي. تحمس صديقي للفكرة واتفقنا أن نفكر كلانا في الأمر ونعود للتشاور. فكرنا ولا أذكر أننا عدنا للتشاور. كان الدافع وراء عرض الفكرة هو ما جاء بالفصول الأخيرة من كتابنا عن التحديات التي تواجه هذا النظام الإقليمي في مقبل الأيام وتهدد استقراره وربما مصيره. وهو بالتحديد ما دفع زميلا عزيزا يقود قطاعا فكريا متميزا في مؤسسة بحثية لها مكانتها المرموقة في عالمنا العربي، دفعه إلى الاتصال بي قبل أسبوعين. يبدو أنه توسم في شخصي القدرة وربما الرغبة في كتابة دراسة مطولة عن العلاقة إن وجدت بين متغيرات القيم والعقائد في الإقليم خلال العقود القليلة الماضية وبين الحال الراهنة للنظام العربي ومؤسساته. لم يفاجئني العرض بقدر ما فاجأتني  وفاجأته بدون شك سرعة اعتذاري عن عدم الكتابة في هذا الموضوع.

لست نادما على الاعتذار أو سرعة تقديمه فأسبابي التي تقف وراءهما كثيرة. السبب الأهم  شخصي ويتعلق بالتعقيدات التي يمكن أن تواجهني إن قبلت العرض ورحت أقرأ وأسأل وأبحث، ثم أقدمت على لحظة الكتابة لأكتشف عندها أنني ورطت نفسي في رحلة بحث عن الكآبة، تحت اسم البحث عن  الحقيقة. وفي ضميري أنهما، في هذه الحالة التي نحن بصددها، غير منفصلتين. تحت هذا السبب الشخصي تتفرع عناصر عدة، ترسم في مجملها شكلا للنظام الإقليمي العربي يتراوح ما بين اتفاق في قليله واختلاف في كثيره عن القواعد والمبادئ والطبيعة التي اجتمعت في النظام كما عرفناه وعرّفناه في كتابنا.

•••

 تحدثنا في كتابنا عن مستوى غير متواضع للمشاعر القومية السائدة في ذلك الوقت، أقصد وقت كتابة المخطوطة الأولى من الكتاب. تحدثنا أيضا عن درجة مرتفعة من العداء للصهيونية وانفعال شبه مستمر إزاء الأعمال العدوانية التي تمارسها قوى الاحتلال الإسرائيلي. صحيح أن دول النظام العربي لم تتساو في عدائها وانفعالها لكل ما هو صهيوني وإسرائيلي وإجراءات تطبيع ومعاهدات صلح عقدت تحت لهيب الحرب أو التهديد بها أو النصر غير الكامل فيها، إلا أن السنوات الثلاثين أو الأربعين الأخيرة شهدت برودة متصاعدة في سياسات دول الأمة العربية تجاه قضية فلسطين متأثرة ولا شك بانحسار الحماسة للمشاعر والسياسات القومية، متأثرة أيضا بعدم وجود دولة أو مجموعة دول تتصدى لمسئولية العمل القومي.

من ناحية أخرى، تشابهت إلى حد كبير على امتداد عقود النشأة الأولى  ظروف النمو في أنحاء الإقليم العربي مما أتاح وضع تصورات ممكنة التنفيذ على صعيد التكامل الاقتصادي. تعددت المشاريع وأمكن للجامعة العربية أن تقنع بعض الأموال الفائضة العربية بالتوجه للاستثمار في مشاريع تكاملية. حدث في العقد الرابع وما تلاه أن بدأ التشابه النسبي في ظروف الدول العربية ينحسر لصالح تفاوتات قابلة للاتساع ولصالح تباعدات بين المصالح ومناهج التعليم وعلاقات دول النظام بالعالم الخارجي ومنه الطرف الصهيوني. عاد يشتد ساعد النفوذ الأجنبي ممثلا في قواعد عسكرية واحتلال أجنبي باتفاق طرفي الاحتلال. تراجعت المفاهيم “العروبية”  المشتركة. اختفى الكثير منها في دول بعينها وتراوح استخدامها متباعدا في دول أخرى.

أطلت برأسها ثم بطولها الطائفية والولاءات العرقية مستغلة غياب مفاهيم كانت وراء ارتقاء لغة الخطاب العروبي على طول فترات النشأة للنظام العربي. شهدت بنفسي وشباب باحثون صمود الخطاب القومي لمدد اختلفت باختلاف سرعات التغير المفهومي للسياسة الخارجية في دولة عربية عن الأخرى. حافظت دول على نص الخطاب وخضع للتغيير في دول أخرى  بخلطه أحيانا بنماذج أكثر واقعية أو كاستجابة مناسبة تحت ضغط دول غربية راحت تعمل على استرداد ما فقدت من قواعد ثقافية وسياسية داخل دول بعينها في فترة ما سمي بالمد القومي. راحت تعمل أيضا على سد كافة السبل أمام انبعاث قومي جديد.

تصادف، أو حدث بفعل فاعل عربي وأجنبي، أن تمدد نشاط ونفوذ تيارات دينية متطرفة حتى تمكنت من تولي السلطة في موقع أو آخر، تمكنت أيضا من النفاذ إلى مستويات عالية في قطاعات الإعلام العربي. ومن هناك استطاعت وبدرجات متفاوتة من النجاح خفض مستوى انتشار الخطاب العروبي لصالح خطاب “تصالحي” في جوهره وواقعي في بعض توجهاته وبعيد عن مفردات القومية في رسالته. في الوقت نفسه نجحت الثورة الإسلامية في طهران في إرساء قواعد لها في مواقع عربية مستغلة الوجود الطائفي والتوترات الناجمة عن علاقات الصلح مع إسرائيل وفي دول تعاني من فساد السياسة أو عدم الكفاءة في صفوف طبقات سياسية ناشئة أو في دول تتعرض شعوبها لموجات عنف وقمع بينما شعارات النظام لا تتوقف عن تمجيد القومية العربية كما في عراق الرئيس صدام حسين وفي ليبيا  الأخ معمر القذافي.

كثيرا ما تعللنا بالأجانب سببا لتدهور حال العرب، ولم نكن دائما من الظالمين. كانت الغزوة الأمريكية للعراق سببا كافيا وحده لتبرير الأزمة   الناشبة منذ ذلك الحين في الضمير العربي المشترك، أي الضمير الشعبي والضمير الحاكم أو المتحكم. نشبت أزمة في وقت سابق سميت بأزمة النكبة  وهذه خلفت آثارا مباشرة على هياكل كثيرة في العالم العربي. ثم نشبت أزمات عديدة أخرى كلها خلفت آثارا، بعضها تناقض مع الآثار الأسبق حتى بدت وكأنها نشبت لتمحوها ليس فقط من الذاكرة العامة ولكن أيضا من الكراسات والمناهج وعقول الأطفال.

كل هذا وغيره انعكس على فكر وعمل المؤسسات الجماعية العربية في شكل أو آخر. حينا تبنت ما أطلقنا عليه الرومانسية القومية، أو القومية الرومانسية ولها نوعها من المؤسسات. وفي حين آخر تبنت طابعا مزدوج النوايا، نية ادعاء البطولة ونية امتصاص غضب الشعوب، كهذا اجتمعت الدول بتردد واضح على إنشاء اتفاقية الدفاع المشترك. وفي حين ثالث غضبت للنكسة غضبا عارما فأخضعت نفطها لشروط فارتفع سعره ارتفاعا جما وتغيرت حال العوائد والثروات فتبنت النية في إقامة مشروعات للتكامل الاقتصادي. هي بدون شك الفترة الذهبية للجامعة ولتجربة القومية الوظيفية. وعهدها قصير.

•••

تباطأ الزمن على العرب. لم يعد العرب شيئا واحدا كما في كتابات السنوات الأولى لاستقلالهم. تفاوتت الدخول والسياسات. انسحب الفكر القومي من أغلب الساحات وبدقة أكبر انسحب تأثيره، حيثما وجد متناثرا، على صنع السياسة والقرار في العالم العربي. نذكر الآن كيف أنه في وقت من الأوقات كان في نظر الطبقات الحاكمة يمثل تهديدا مباشرا عليها وعلى الدولة القطرية الناشئة. ثم جاءت مرحلة صار الخطر الماثل الحقيقي هو القادم من عوامل انفراط القطر من داخله، من طوائفه وقبائله وأعراقه وثرواته ومواقع فقره المدقع. لا يمكن إنكار حقيقة أن فترة الانتماء القومي كانت أكثر رحمة بالدولة القطرية من فترات الانفراط الراهنة على اختلاف مسمياتها وزعاماتها وتحالفاتها الخارجية وتفاوتات ثرواتها وفقرها.

فشل الإعلام العربي في كثير من مهامه وأهمها لم الشتات. أو أنه لم يوجد عندما دعت الحاجة. أو أنه كما اعترف الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، محمود رياض، لي في مكتبه بالجامعة العربية في نصيحة لم أقدرها حق قدرها في وقتها. قال يوجد الإعلام حين توجد سياسة، لن تستطيع حشد ما تسمونه طاقات إعلامية لإنقاذ الأمة طالما بقيت دول الجامعة غير موحدة وراء سياسة بعينها. تغيرت توجهات الدول الكبرى فتعددت مواقف الدول الأصغر بتعدد هذه التوجهات. أمريكا لم تعد العملاق الذي لا يمرض ولا يخطئ. لم تعد أوروبا على استعداد لأن تبقى دائما دولا غنية تابعة. روسيا تريد استعادة بعض ما فقدت خلال سنوات الانفراط السوفييتي. والصين بزغت قوة عظمى بلا منازع حقيقي إلا أمريكا منافسا مخربا. عالم بسياسات متصارعة والعرب بلا سياسة ولا دليل أقوى من فشلهم في عقد قمة تضع سياسة. نعم عرب بلا سياسة وبالتالي بلا إعلام وبلا هدف وبمؤسسة إقليمية تركوها جوفاء بلا رسالة.

هناك أصوات كثيرة تجأر عالية. حاول أن تسمعها. في الغالب لن تفهم، فكلها تهتم بتفاصيل لن تهمك. انفرط الإعلام إلى فضائح وتطورات وحوادث وإنجازات فرعية، في مجموعها لا تستحق هذه الأصوات على علوها صفة الإعلام العربي، لم تعبر هذه الأصوات يوما عن إعلام عربي موحد   والسبب بسيط. القادة العرب لم يقرروا بعد أن تكون لهم سياسة موحدة.

ينشر بالتزاامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version