طلال سلمان

الطريق الى فلسطين

لم يستطع أحد من الفريقين المتحاربين في فلسطين من فرض إرادته على الآخر. لم ينتصر أحدهما. يقول بعض كبار منظري الحرب أن النصر في الحرب يعني فرض الإرادة على العدو بعد كسره. في الوقت عينه يقول كل فريق أنه انتصر، بمجرد منع الفريق الآخر من تحقيق أهدافه. أهداف إسرائيل في الترانسفير (من الضفة الغربية) والإبادة الجماعية (في غزة) غير معلنة. ما يزيد الإلتباس هو الإلتباس الحاصل نتيجة ما يسمى سيرورة عملية السلام. هي مفاوضات لا تنتهي؛ لا ترغب إسرائيل بأن تنتهي. ولا يستطيع العرب إنهاءها لدى إسرائيل بسبب أخذهم بمفهوم “حل الدولتين”، رغم أنهم يعرفون أن هذا الحل الموهوم لن يحصل، بل هو ذريعة لقضم المزيد من أراضي الفلسطينيين، بمصادرتها وطردهم، ليصيروا لاجئين في بلادهم أو في بلاد أخرى.

يتوق الحكام العرب لتحقيق حل الدولتين. هم يعرفون أن تبني هذا الحل، منذ اتفاق أوسلو وحتى المبادرة العربية عام 2002، يعني مسبقاً وبشكل مضمر الاعتراف بإسرائيل. ما يؤخر تنفيذ حل الدولتين هو إسرائيل. اغتال متطرفوها رابين بعد أوسلو، وبدأت إسرائيل حرباً دامية في اليوم التالي بعد إقرار القمة العربية مبادرة الملك عبد الله.

إسرائيل تعرف ماذا تريد. هي دولة ذات قرار. دولة تستطيع أخذ قرار. الفريق الآخر في فلسطين ليسوا دولة. هم شبه بلدية. رغم ذلك تشل القدرة الفلسطينية الإنشقاقات بين غزة والضفة الغربية، واختلاف الولاءات لدول خارجية عربية وإسلامية، بالإضافة الى اختلاف الأيديولوجيات، التي تتراوح بين تبني الأخوان المسلمين في غزة الى ما يشبه العلمانية في الضفة الغربية.
الإلتباس الأكبر لدى الفلسطينيين، والعرب، والمسلمين عموماً، هو أنهم تيارات مختلفة. بعضها يريد إزالة إسرائيل، وبعضها الآخر يريد حل الدولتين. لا يعرف معتنقو عقيدة إزالة إسرائيل بأنهم لا يقدمون حلاً وبأن العالم كله سيكون ضد ذلك. لا يعترف هؤلاء بإسرائيل، لكنهم في الحقيقة لا يستطيعون كشف أوراقهم. إسرائيل دولة وفلسطين بلدية، بالأحرى بلديتان. حتى البلديتان فيهما الكثير من المثالب والنواقص التي تمنع العمل البلدي المنتظم. كل شيء هو في النهاية بيد الدولة التي هي إسرائيل. ما لم توافق هذه الدولة على كل ما تنوي إحدى البلديتين القيام به، فإنه لن يخرج الى حيّز التنفيذ. حل الدولتين الذي مضى على إقراره حوالي 40 عاماً هو هدف وغاية عند الفلسطينيين، لكنه وسيلة تلاعب وغش ونفاق عند دولة إسرائيل. حل يؤدي الى الإحباط والاحتقان لدى الفلسطينيين. كلما طفح الكيل لديهم ينفجر وضعهم. هم ليسوا الآن في حرب مع إسرائيل. القوى غير متكافئة بين دولة مدججة بالسلاح والدعم الدولي، ودويلة هي كالأيتام على مأدبة اللئام من حكام العرب.

يخاف الطرفان من حل الدولة الواحدة. ذلك يعني تخلي الفلسطينيين عن الدولة-البلدية، وتراجع مفهوم الأوضاع الشخصية. سيكونون مواطنين درجة ثانية في دولة أبارتايد (دولة تمييز عنصري). لكنه يعني أيضا للإسرائيليين فقدان القدرة على التلاعب بشعبهم، وبالعرب، وبالعالم. حل الدولتين يفقد إسرائيل حجة الأمن. لا تريد إسرائيل من الفلسطينيين، إذا بقوا في أرضهم، سوى الحفاظ على الأمن، على أن يكون من صلاحيتهم كوكلاء عند إسرائيل. وبالتالي تسميتهم بالدولة يتيح لها شن الحرب متى اعتقدت أو كذبت بخصوص التهديد الخارجي. يريدون للدولة-البلدية الفلسطينية البقاء؛ أشبه بمستعمرة تحت الجناح الإسرائيلي. دولة فلسطينية دون استقلال ودون شخصية قائمة بذاتها. لا يخسر الفلسطينيون شيئاً من فقدان “حل الدولتين”، وتبني “حل الدولة الواحدة”. هم خاسرون حقوقهم في المواطنة في كلتا الحالتين. لكن حل الدولة الواحدة ينقل النقاش أو الخطاب المحلي والدولي من مسألة الأمن الإسرائيلية الى مسألة الحقوق الفلسطينية.

منذ طرح حل الدولتين في اتفاق أوسلو، بادرت إسرائيل الى توسعة المستوطنات في الجزء الفلسطيني. قتلوا بدايةً إسحق رابين الذي وقّع الاتفاق، ثم جاؤوا باكثر الضباط إثارة للحقد، شارون، لقيادة إسرائيل. منذ اليوم الأول قرروا تنفيذ ما يضمرونه هم، لا ما يوقعونه من معاهدات، ولا ما يطبقونه من قيود يفرضها ما يسمى القانون الدولي.

إسرائيل ليست دولة ذات جيش؛ هي بالأحرى جيش ذو دولة. الجيش أولويته الأمن لا السياسة. في حل الدولتين، الأمن وحده هو ما يقرر العلاقة بين الدولتين. في حل الدولة الواحدة يحتل الأمن مرتبة ثانية بعد الحقوق. حقوق كل منهم داخل الحدود. لا تطبق إسرائيل حل الدولتين. وهي لا تريد حل الدولة الواحدة.

ما تريده إسرائيل وتخطط له، حسب الأيديولوجيا التي قامت على أساسها، هو إبادة جماعية في غزة وترانسفير في الضفة الغربية. البرنامج الصهيوني الأول قام على مبدأ “أرض بلا شعب” فلسطيني لشعب لا أرض له (كما كان) لكنه أصبح يسيطر على الأرض عن طريق التقدم والقوة (وهما لا يفترقان)، وعلى جزء كبير من المنطقة. لكن الإنطلاق الأساسي لإسرائيل هو حرب إبادة الشعب الفلسطيني. طبعا يتطلّب ذلك ارتكاب “جرائم حرب”، كي لا تغيب عن بالنا تعابير المجتمع الدولي والقانون الدولي المزعومين. ما نراه أمامنا في غزة والضفة هو حرب إبادة، وجرائم حرب، ومحاولات تطهير عرقي. تلك هي قواعد الاشتباك الأساسية. وذلك ما يقرر السياسة والديبلوماسية الإسرائيليتين.وما سمعناه مؤخرا عن تغيّر “قواعد الاشتباك” في هذه الحرب الأخيرة بعيد عن الواقع. المفجع هو ما نسمعه من معلقين عرب عن انتصار تحقق في منع العدو من تحقيق أهدافه. كل ذلك هراء ونفاق ورياء. كل ذلك كلامولوجيا تبرر للأنظمة العربية والإسلامية الهروب من المعركة. جميعهم يتلذذون بالدم الفلسطيني؛ بخلاف الشعوب العربية المكبلة بالاستبداد. ذلّ الخضوع للاستبداد لا يقل مهانة عن ذل الخضوع للصهيونية وإسرائيل.
الطريق الى فلسطين تكون بالتقدم والحداثة وبناء مجتمعات عربية متماسكة، ودول عربية تستوعب مواطنيها، ومحو الاستبداد السياسي والمجتمعي. لا يحدث ذلك إلا بالتمرّد على أنفسنا للخروج من القاع الذي نحن فيه. حروب إسرائيل علينا هي كي نبقى في القاع. بقاء الاستبداد شرط لاستمرار إسرائيل وسياستها. الثورة المضادة بعد ثورة 2011 العربية شرط لبقاء الاستبداد. الطريق لفلسطين لا تكون بالصواريخ وحدها، كما لم تكن ببندقية الكلاشينكوف من قبل. ما زلنا نقرأ في كتاب الشقيري. ربما كان هو أصدق ممن جاء بعده.

ورث الصاروخ جاذبيته بعد الكلاشينكوف. لكن الوعي واحد، إن لم يكن أسوأ. الطريق الى فلسطين تمر عبر تغيير الوعي، وتغيير جميع مجتمعاتنا. الطريق طويلة. لا طريق مختصر، “قادومية” كما يقال بالعامية. وما نسمعه من مختلف الأطراف، ذات اليمين وذات الشمال، هو شبه إجماع على أن قواعد الاشتباك قد تغيّرت وأن الصراع يتخذ منحى جديداً. نسمع الكثير من الجعجعة ولا نرى طحيناً. مواجهات فيها الكثير من الأذى والتدمير  للشعب الفلسطيني وللروح العربية، والقليل من الخدوش تصاب بها إسرائيل.


ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

Exit mobile version