طلال سلمان

الصين في الشرق الأوسط، قوة عظمى على طريق الحرير

حشرونا في أربع بنايات في أرض فضاء على طريق المطار خارج مدينة بكين. لم يتبق من دبلوماسيين يسكنون داخل المدينة سوى فلول البريطانيين وعدد بسيط من دبلوماسيين وقعوا في حب الصين التي رسموها في خيالهم فأرادوا العيش وسط أهلها وسمحت لهم الحكومة مضطرة وعلى مضض. أما البريطانيون فهؤلاء أقاموا داخل مربع من المباني وسط ما كان يعرف قبل الثورة بحي الأجانب ويحتوي على السفارة ومساكن القائم بالأعمال وبقية موظفي السفارة البريطانية.

لفتت نظري خلال زيارة خاصة لمنزل أحد أعضاء السفارة داخل “الكومباوند الإنجليزي” آثار لوحة صغيرة على جدار في مدخل الكومباوند تؤكد الأمر القاضي بمنع الصينيين من الدخول إلا لحاملي أذون خاصة. المفارقة المثيرة في هذه اللوحة البالية أنها من صنع وأمر الإنجليز منذ عهد ما قبل الاستقلال، عندما كان الإنجليز وأجانب آخرين أسيادا يحق لهم منع الصينيين والكلاب من دخول أحياء خصصوها لسكناهم. أتصور أنه كان للحكومة الشيوعية التي حلت محل حكومة الكومنتانج في بكين مصلحة مزدوجة قي بقاء هذه اللوحة في مكانها ولم تطلب إزالتها. أرادت أن تظل شهادة تاريخية على عنصرية الغرب الأبيض واستخفافه بشعب الصين. أرادت في الوقت نفسه أن تؤكد تعليماتها لجميع الصينيين في ظل الحكم الشيوعي بأن لا يتزاوروا مع الدبلوماسيين البريطانيين، ضمن سياسة عامة تقضي بمنع الاختلاط مع الأجانب.

كان عددنا في بكين كبعثات دبلوماسية أجنبية لا يزيد عن الثلاثين، كنا ثمان وعشرين بعثة إذا لم تعاندني الذاكرة، أغلبها يمثل الدول الاشتراكية في أوروبا ودول في آسيا كالهند طبعا وسيلان وبورما وكمبوديا وإندونيسيا ودولة من إسكندينافيا. لم يكن في بكين تمثيل دبلوماسي لدولة من الشرق الأوسط وإفريقيا إلا السفارة المصرية. وحدنا تحملنا العبء في بكين وأظن أن مصر حصلت على ما تستحق من ثناء الصين ودعمها. كانت لحماسة مصر تجاه الصين ما يبررها منذ أن قرر الغرب ضرب مصر بالحرب في سيناء والقناة وبالتواطؤ مع قوى شرق أوسطية عندما أطلق أيزنهاور مبادرته بشأن وقف التمدد الشيوعي المزعوم والسعي لتحريك قوات تركية ضد سوريا.
كانت التعليمات الصادرة للسفارات المصرية في الخارج تقضي بحث الدول الأفريقية المستقلة والقوى والحركات الساعية للاستقلال والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية للاعتراف بجمهورية الصين الشعبية وإقامة علاقات معها. كان لمصر نفوذ يسمح وشبكة علاقات تعزز وصوت يغطي أبعد أقاليم إفريقيا والشرق الأوسط وبعثات دبلوماسية وإعلامية في عديد العواصم حتى في عواصم دول في أمريكا اللاتينية، كان هذا الصوت يحمل رسالة مقنعة ليس فقط عن الصين ولكن عن العالم الثالث ككل.


خطرت الفكرة وراء السطور السابقة بينما كنت أقرأ تقريرا عن دور للصين في الشرق الأوسط بدأ متريثا قبل سنوات قليلة وها هو ينطلق متعاظما في كل اتجاه ونحو كل عاصمة في الشرق الأوسط. كتبت في السطور السابقة عن الصين قبل ستين عاما. كنت هناك عندما كانت دبلوماسية دولة عربية من الشرق الأوسط، هي مصر، وبكل الحسابات أوسع نفوذا وانتشارا من دبلوماسية الصين في هذا الإقليم وفي أقاليم أخرى. كنت هناك وكنت منبهرا بما يمكن أن تفعله دول ناشئة مثل الهند ومصر وإندونيسيا في السياسة الدولية، ومنبهرا في الوقت نفسه بحجم المسؤولية الملقاة على عاتق مجموعة رجال ونساء صينيين وصينيات قضت سنوات تحلم أحلاما كبارا وها هي الأحلام تتحقق حلما بعد الآخر. عاصرت وقتها أحلامهم لداخل الصين اجتماعيا واقتصاديا، أحلام بدت لنا كمراقبين أجانب مستحيلة كالأساطير، أحلام لا تحققها إلا سلسلة من ثورات داخلية وتضحيات هائلة. بالمقارنة بدت لنا أحلامنا متواضعة تتطلب في وقتها ما وصف بأنه مغامرات وتضحيات على صعيد السياسة الخارجية ولم يحظ الداخل إلا بالقليل الناعم منها، حتى الثوار، أو المغامرون، لم يكونوا كما تكشف لنا المقارنة، على درجة كافية من الجرأة، أو أنهم لم يقدموا التضحيات اللازمة.


كيف حققوا هذا الإنجاز؟ السؤال الذي لم تتوقف عن توجيهه القاهرة لنا، وأقصد لسفارتها، عقب كل إنجاز يتحقق في الصين. كنا نعرف أن وراء السؤال نية التقليد. إذا كان الصينيون فعلوها فماذا يمنعنا؟ كان بيننا وعلى رأسنا أحيانا من تملكه الظن أننا في مصر قادرون بالانضباط والتنظيم على تحقيق إنجاز بعد آخر مثلما فعل الصينيون. لم نفهم وقتها أن وراء مفهوم التنظيم في الصين ما هو أكثر وأعمق من مفهوم الانضباط كما نفسره ونطبقه. حاولنا بصعوبة تحسين الفهم. لم يكن مقبولا الحديث صراحة ولا في مذكراتنا الدبلوماسية السرية عن حقيقة أن في الصين حزبا، وأن لا مؤسسة أخرى في الدولة تحل محله وتقوم بوظائفه وتعتنق ما يعتنقه. لن تفلح دولة قررت أن تقلد التجارب الصينية، أو تجربة واحدة من تلك التجارب. تجارب الصين اختلطت بثقافتها ولكن أيضا بما لا يقل أهمية وهو الحزب. حزب تمتد جذوره إلى قلب كل قرية وإلى عقل كل مواطن، طفلا كان أم شيخا. مؤسسة أقوى وأهم من القبيلة أم القبائل في المجتمع التقليدي وأعظم نفوذا وهيمنة من أي مؤسسة سياسية أخرى في المجتمعات الأحدث قليلا والأحدث كثيرا.


كثيرا ما طرحت السؤال على المتحمسين لتقليد التجربة الصينية في التنمية مثلا. هل أنتم على استعداد لتنظيم وترتيب نشوب ثورة ثقافية، حسب الفهم الصيني لهذا المفهوم، تنظيمها مرة أولى في البداية ثم كل عقدين أو ثلاثة عقود. أعرف، بكل الدقة الممكنة والظروف المتاحة، أن دولة عربية جربت فأنشب الحاكم فيها ثورة ثقافية بفهم خاطئ وفي غياب حزب أو مؤسسات أو ما شابه فكانت المهزلة وكان الضياع. من ناحية أخرى لا ننسى ولا يجب أن يغفل الساعون إلى تقليد تجارب الصين عن حقيقة أن المجتمع الصيني الذي انطلق بكل قوته يحقق نهضة التحديث كان الثمرة التي أفرزتها الثورة الثقافية. بمعنى أخر، هناك شك كبير في أن مجتمع ما قبل الثورة الثقافية بخصائصه المعروفة المناهضة للتحديث، وقد عشت جانبا من السنوات الأخيرة لهذه المرحلة، كان يمكن أن يحقق نهضة تحديثية في التنمية أو في الانفتاح على العالم الخارجي في هكذا وقت قصير.


المسؤولون الصينيون لن يناقشوا هذه الحقيقة، أو الأسطورة، بكل ما يلزم من صراحة ضرورية، ولكنهم في النفس ذاته يعلنون رفضهم المطلق للمبدأ الغربي القائل بأن حالات السلام والرخاء لا تقوم إلا على الديمقراطية.
في رأيهم يقوم السلام والرخاء على التنمية الحقة والشاملة والمتكاملة. هذا الرأي هو ما تطرحه الصين على الدول الساعية لتقليد تجاربها شرطا مسبقا للتقليد الناجح ولكنه لن يكون شرطا لتعامل وتعاون وصداقة بين الصين ومختلف الدول. لا تخجل الصين ولا تتردد وتكاد تكون واثقة من أن المستقبل مدين لمعتنقي هذا الرأي وليس لمعتنقي الرأي المنادي بأولوية الديمقراطية. هم، وأقصد الصينيين، مطمئنون إلى مستقبل وجودهم ونفوذهم في الشرق الأوسط. لم يطرحوا بعد أهدافا جيواستراتيجية في الإقليم. حاليا لا يخفون أن مصالحهم تدور حول موضوعين أساسيين، هما الطاقة ومبادرة الطريق والحزام. يرفضون، حتى الآن، التورط في مواقف من النزاعات الإقليمية والدولية التي يعج بها الشرق الأوسط. لا قوات عسكرية للصين في الإقليم وهي لا تنظر بعين الرضا إلى احتمال أن تخضع اليابان لضغوط الغرب فترسل لأول مرة في تاريخها الحديث قوات عسكرية إلى الخارج. الصين لن تنشئ قواعد عسكرية غير ضرورية إلا إذا دعت الحاجة إلى حماية طرق وقواعد تجارة مبادرة الطريق والحزام.


الجديد الأهم في الموضوع كخلاصة وبداية هو أن الصين وقد أصبحت قوة عظمى في الشرق الأوسط لن تقبل لنفسها دورا أقل من عضو كامل العضوية في نظام شرق أوسطي متعدد الأقطاب.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version