طلال سلمان

الصين.. رواية مختلفة

“نعرف عن أمريكا أكثر مما تعرفه أمريكا عن الصين”. عبارة وردت قبل أيام قليلة في خطاب أو تصريح لمسؤول صيني كبير تعقيبا على القرارات الأمريكية الأخيرة الصادرة في شأن صادرات الصين إلى أمريكا. اخترت هذه العبارة من بين عشرات حفلت بها مقالات الصحف الصينية، كلها تشير إلى حقيقة بزغت في سماء العلاقات الدولية، حقيقة لم تعد تحتمل الشك وتؤكد التحول الذي صرنا نلاحظه في كتابات الغربيين وكتاباتنا. الصين لم تعد الدولة النامية الصاعدة نحو القمة، الصين الآن دولة في القمة.

عشنا سنوات، نحن والصينيون، نردد رواية الصعود الهادئ والمتدرج، الصعود على استحياء تنفيذا لتوصية الزعيم دينج شاو بينج. مشينا الهويدا نراقب مجتمعا ينفتح مواربا بعد أن عاش منغلقا ثلاثين عاما. تابعناهم يتكلمون فلم نسمع وقتها كلاما كبيرا عن السعي نحو العظمة أو القيادة الدولية. لم تقع تعبئة جماهيرية ضد وضع دولي ظالم للصين أو عن رغبة في تدمير النظام الدولي القائم وإقامة غيره. اشتغلوا في هدوء وتسللوا إلى كل بيت في العالم. لم يتدخلوا في شئون الدول. لم يسقطوا في زحفهم أو يقيموا حكومات. لم يشتركوا في عمل عسكري خارج حدودهم إلا بدور متواضع في مياه شرق إفريقيا لمكافحة القراصنة الصوماليين الذي هددوا سلامة أهم خطوط التجارة الصينية إلى الخارج.

قرأت لمن يعتقد أن الصين ربما كانت في حاجة لعقدين آخرين قبل أن تصل وتتربع عند القمة. هناك بالفعل تيار في الكتابة عن الصين يميل إلى فكرة أن وصول دونالد ترامب إلى قمة السلطة في أمريكا أنهى التزام القيادة الصينية بوصايا الرئيس دينج شاو بنج. بل وجدنا في بعض الكتابات الصينية ما يوحي بأن المسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني توقعوا ما يطلقون عليه الآن الظاهرة الترامبوية. توقعوا أن يظهر في أمريكا حاكم أو تنظيم سياسي يرى بالوضوح الكافي حال الانحدار في الوضع الأمريكي فيقرر التغيير. توقعوا أن يأتي إلى البيت الأبيض من لا يؤمن بالديموقراطية الليبرالية ولا يثق في دعاتها، من لا يطمئن إلى النظام الدولي القائم بمؤسساته المتعددة بل لعله يمقتها. هذه المؤسسات صنعها وأبدع في صنعها أسلافه كأدوات إمبراطورية بصياغات قانونية. مؤسسات أقامت نظام هيمنة دولية تقوده الولايات المتحدة ويخدم أيديولوجيتها وأطماعها الخارجية ويحمي سيادتها وأراضيها.

الحاكم أو النظام الأمريكي الذي توقع قرب وصوله أعضاء في الحزب الشيوعي الصيني أتي فعلا ولكن مبكرا عن أحسن تقديراتهم، فتسارعت خطى قادة النخبة الحاكمة في الصين. رفعوا قناع الحياء الذي أوصاهم به زعيم الانفتاح، وتخلوا عن أساليب التسلل وأعلنوا عن أهداف جديدة لهم في أوروبا وآسيا وأفريقيا. الدولة الصاعدة صعدت والصدام المؤجل بين القوة العظمى القائمة والقوة العظمى الصاعدة صار حقيقة واقعة ربما قبل أوانها. صار هو نفسه عنوان مرحلة وترجم نفسه في كراسات خطط استراتيجية وتصدر كبند رئيس جداول أعمال مؤسسات السياسة الخارجية والدفاع في أمريكا وروسيا تحديدا و أيضا في الهند واليابان وشبه جزيرة كوريا وفيتنام. لا يفوتنا أن نذكر أنه ما يزال بندا يبحث عن مكان في جداول أعمال السياسة الخارجية في عشرات الدول الصغيرة والمتوسطة، دول تحتار فيما تفعله بنفسها في عالم هكذا مضطرب وتفاصيله جديدة حتى لخبراء خبروا أزمات وحروب وصراعات عديدة، ولكن ليست من هذا النوع ولا المعنى.

***

الصين تصعد وروسيا تستعيد مكانا فقدته عندما فقدت إمبراطوريتها السوفييتية. الدولتان واقعتان الآن تحت حملة عقوبات أمريكية آخرها العقوبة الستين على روسيا وفرض التعريفة الجمركية على المنتجات الصينية المصدرة إلى السوق الأمريكية. ليست مصادفة اجتماعهما في هذه الحملة. كلاهما محل اتهام بالتدخل في الشؤون الداخلية لأمريكا، وكلاهما بالفعل يتقاربان منذ فترة غير قصيرة. أن تشترك الصين بقوات وأسلحة متنوعة في أهم مناورات تجريها القوات الروسية في سيبيريا لهي خطوة واسعة ولا سابقة لها في العلاقة بين الدولتين. أضف إلى هذا التطور تطورا لا يقل أهمية في علاقات التعاون في مجالات الطاقة والاستثمار وتبادل الخبرات في قطاع إنتاج الأسلحة بالغة التقدم التكنولوجي. ألم يكن هنري كيسنجر صادقا مع نفسه وتاريخه حين نصح المسؤولين الأمريكيين بغرس أسباب للوقيعة بين الصين وروسيا قبل أن يعززا تحالفهما؟

***

أظن أن أمريكا في ظل الحالة الترامبوية سوف تسعى فعليا للتوصل إلى استراتيجية تراضي مشترك بين روسيا وأمريكا. لست من الذين يقللون من أهمية موقف ترامب تحديدا من بوتين خاصة وروسيا عامة. شيء ما يحدث في أمريكا لا يقبله منطق الدارسين لأمريكا وعقيدتها السياسية. غير مفهوم أن يكون النظام السياسي الأمريكي ديموقراطيا ليبراليا يحكمه القانون والتوازن بين المؤسسات الدستورية بينما واقع الحال يشير إلى أن أمريكا تكاد تصنف واقعيا دولة يحكمها نظام الرجل الواحد. رجل لا يحترم قوانين البلاد ودستورها وتقاليد الحكم فيها ويتطلع إلى دور تقوم به أمريكا للقضاء على النظام الدولي القائم والجائر، وبناء نظام جديد تقوده أمريكا منفردة ولكن على رأس حركة سياسية عالمية جاري تنظيمها بالفعل انطلاقا من أوروبا، تدين بأقصى عقائد اليمين الغربي المتطرف.

***

الصين لا شك تدرك مصير العلاقات الدولية ومصيرها هي تحديدا في ظل قيادة عالمية تهيمن عليه منفردة أمريكا الترامبوية. المثير في الأمر أن الصين صارت تجيد أساليب الغرب في الاستثمار في مصادر الثروة في الدول النامية. بينما كانت هي نفسها ضحية هذه الأساليب.. فضحتها قضية الميناء الذي شيدته في سيريلانكا بقروض هائلة عجزت الحكومة في كولومبو عن سداد أقساطه فآل إلى الصين ملكية شبه دائمة. تماما ما كان يحدث في الصين قبل الثورة. هذا المصير قد يتكرر في أوروبا ذاتها فتؤول موانئ وطرق نقل ومستودعات وأحياء كاملة للصين تديرها وتستثمرها عشرات السنين في حال عجزت دول القارة عن سداد القروض الصينية. هكذا فعل الأوروبيون والأمريكيون مع الصين حين كانت القوة المالية الحافز لفرض الهيمنة على الشعب الصيني وحكومته الإمبراطورية.

أتصور أن الأوروبيين يقفون مترددين أمام الضغوط الأمريكية التي بالكاد بدأت لوقف صعود الصين أو توسعها في الغرب. الصين، رغم قوتها العسكرية وتفوقها التكنولوجي ما تزال سوقا تجارية هائلة. الصين الآن سوق وفرصة قلما يتوفران معا في العصر الحديث. أوروبا في حاجة للصين خاصة وأن أمريكا الترامبوية تنسحب وتنعزل تحت شعار أمريكا أولا، وفي الوقت نفسه لا يخفي الأوروبيون قلقهم بسبب السمعة السيئة للاستثمارات الصينية، وهي السمعة التي ترددها بحماسة شديدة هذه الأيام أجهزة الإعلام ومراكز البحوث الأمريكية. أكاد أصدق ما يتردد عن أن السياسيين الأوروبيين راضون عن خطط تعدها الولايات المتحدة لعرقلة الصعود الصيني أو وقفة كلية، رضاء غير معلن لأنهم غاضبون من تصرفات عديدة أخرى لترامب ولكن أيضا لأنهم محتاجون للاستثمارات والسوق الصينية.

***

في وجود جون بولتون أستطيع أن أصدق ما يتردد عن خطط أمريكية “جهنمية” لوقف الصعود الصيني أو تعطيل ما تبقى من جهود لاستكماله. سمعت عن خطة لإثارة صراع قديم جديد بين فيتنام والصين. مرة أخرى قد يلجأ الأمريكيون إلى النعرة القومية وأحيانا الوطنية لتشتعل حرب في دولة ما أو بين دولتين. لذلك يجب أن نتوقع اتصالات أوسع وأقوى بين أمريكا وفيتنام ضد إرادة الشعب الأمريكي الزاهد الآن في أي مغامرات خارجية. أقرب إلى خيالنا تايوان. هذه الجزيرة التي كتب عليها أن تظل خاضعة للحكم الأجنبي مئات السنين حان وقت عودتها إلى الوطن الأم، حسب الصين. يمكن جدا أن تنشط الدبلوماسية الدفاعية الأمريكية فتعيد التوتر إلى المضايق الفاصلة بين الجزيرة وأراضي الوطن الصيني. في هذه الحالة سيتحول اهتمام الصين كاملا إلى الصراع حول تايوان مؤجلة القضايا الأخرى المتعلقة بالصعود. نتوقع أيضا، وأظن أنه حادث بالفعل، أن تندفع الهند اندفاعا مهووسا نحو إقامة تحالفات عسكرية مدعومة أمريكيا لجذب القوة البحرية والصاروخية الصينية في اتجاه جنوب آسيا، أي بعيدا عن الباسيفيكي باعتباره المجال الحيوي لخطوط مواصلات الولايات المتحدة. يذكر الجميع أن روزفلت دخل الحرب العالمية الثانية ليحمي الأطلسي من النازي ويحمي الباسيفيكي من الياباني.

***

تبقي حلول لوقف أو على الأقل تهدئة الصعود الصيني من نوع لا يرتضيه مزاج بولتون وبعض قيادات البنتاجون. يجرب بعض الأمريكيين المتخصصين في العلاقات الدولية إقناع المسؤولين السياسيين في أوروبا وأمريكا السماح لكل من الصين وروسيا إقامة منطقة نفوذ لا تصل إليها قوات أمريكية أو من حلف الناتو، ولا يسمح للدول الداخلة فيها بالانضمام لحلف أجنبي. يتصور أنصار هذه الفكرة أن أمريكا أخطأت خطأ كبيرا حين أثارت خوف الرئيس بوتين بسماحها لدول متاخمة لروسيا بالانضمام إلى حلف الناتو. وما مشكلة أوكرانيا ومن قبلها جورجيا وربما في المستقبل لتوانيا ولاتفيا واستونيا سوى نماذج عابرة لمحاولات دائبة لمنع روسيا من استعادة مكانها ومكانتها. الهدف من اقتراح مناطق النفوذ لكلا الدولتين هو إثارة الطمانينة الكافية لتهدئة سعي كل من الصين وروسيا احتلال مكانا يستحقه كل منهما في صف القيادة الدولية.

***

السؤال الحائر ولكن الأكثر ترديدا هو الآتي، هل لدى الولايات المتحدة من عناصر القوة المكتملة، أي سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا وعسكريا وتكنولوجيا، ما يسمح لها بوقف استعادة روسيا بعض مكانتها ووقف صعود الصين أو منعها من ممارسة حقها في المشاركة في القيادة، بل وهل لديها الإرادة السياسية والمكانة الدولية الضروريتان لتخصيص مناطق نفوذ لكل من الصين وروسيا في حال قررت الأخذ بالوسائل السلمية لصنع نظام دولي جديد؟

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version