طلال سلمان

الصحافة وتجديد الحياة السياسية في لبنان

سيكون عليّ ان امشي بظهري، وان اسرق الكلام من اصحابه فأحرّفه ثم ادعيه لنفسي، لأستطيع النجاح في عرض المسألة المطروحة عليّ بالمقلوب…
ففي اجتماعات التحرير في »السفير«، كما في اي صحيفة جادة، نصطدم بهذا الفراغ المخيف الذي يكاد يلغي الحياة السياسية، ويكاد يلغي معها الصحافة، في لبنان، فينهكنا البحث عن وسيلة لتجديد الصحافة، اسلوبù ومضمونù، وتمكينها من توسيع رقعة انتشارها، واقتحام الاجيال الجديدة المستنكفة عن القراءة والمتابعة والاهتمام بالشأن العام، نتيجة لليأس من السياسة وسياسيي عصر الفراغ.
وها انني كصحافي مطالب، ايضا، بتجديد الحياة السياسية!
ومع انني لست »طنسه«، الذي خلدته النكتة الشعبية، فسأحاول جهدي، مفترضا انني هنا، كما في »السفير«، في اجتماع داخلي، لما بين »السفير« و»ندوة العمل الوطني« من وشائج القربى والهمّ الفكري المشترك.
وأملي ان يكون الرئيس سليم الحص، كلجنة فاحصة، رحيمù عند وضع العلامة، بعدما مارس قسوته الكاملة في احالة السؤال المطروح عليه بالذات، معكوسا عليّ، وعملاً بقاعدة »رمتني بدائها وانسلت«.
أما الطموح فأن تساعد هذه الكلمات في تشجيع الرئيس سليم الحص والقلة من امثاله، على لعب دورهم كطليعة للتجديد في الحياة السياسية في لبنان، واستنقاذها من حالة الاستنقاع والركود في ظل شعارات مزركشة عن النهوض الاقتصادي المؤكد بالأزمة الاجتماعية الممنوعة من التجول، ليمكن نفي وجودها، وبالديموقراطية المحروسة جيدù بالجيش لحمايتها من التظاهرات بوصفها مقدمة لقلب نظام الحكم.
بعد هذه المقدمة الذاتية، استأذن في عرض سريع لأوضاع الصحافة، كما اراها، معتذرù سلفù عن اي قصور فيها او ربما عن مرارات التجربة الشخصية في ظل مناخات الحرب الاهلية الملغية للسياسة والصحافة معù، من ضمن إلغائها الوطن والدولة والايديولوجيات والقيم وكل ما يعطي الانسان صفاته الاصلية كمواطن.
ايها الاخوة والاخوات،
في زمن اليأس تزدهر الاحلام،
والحلم هو اقوى سلاح، الآن، لمقاومة الانجراف مع الخطأ او الاستسلام لمناخ التردي والانصراف من حقل العمل وتنكيس رايات الامل بغد افضل، من قبل ان تتخذ دليلاً على وجوب اعلان حالة الطوارئ،
انه زمن التراجع، اي انه زمن التحدي. أنقدر على مضغ التراجع مع الحسرات ولا نقدر على محاولة، مجرد محاولة، انقاذ ما يمكن انقاذه من منجزات زمن النهوض الثوري والتضحيات الجسام من اجل حقنا في حياة كريمة فوق ارضنا؟
بداية، يمكننا القول بنزاهة انه بقدر ما تراجعت السياسة العربية تراجعت الصحافة العربية!
وبقدر ما تقدمت وتغلغلت سموم الحرب الاهلية، الطائفية والمذهبية، الانقسام في الجسم اللبناني تراجعت وتدهورت الصحافة في لبنان.
بقدر ما تراجعت قضية الانسان العربي، حقوقه، وبينها حقه في المعرفة، حقه في التعبير عن رأيه، حقه في المشاركة في القرار، حقه في الاعتراض على حاكمه متى اخطأ، تراجعت الصحافة كمؤسسة ذات دور سياسي، وانحسر دورها فانحصر في مجال الخدمة الاعلامية والترفيه والتسلية الى حد كبير.
ولأن وسائل الاعلام الاخرى، المرئية والمسموعة، اسرع في تقديم الخدمات الاخبارية، فقد خسرت الصحافة مرة جديدة جزءù من دورها، وكاد فارق السرعة في التوصيل يخرجها من دائرة المنافسة كوسيلة اخبار وتوصيل سريع للاخبار.
صارت الصحيفة محكومة بأن تكون اقرب ما يكون الى المجلة: عمادها التحليل والتحقيق والكشف عن خلفيات الحدث، او استشراف ما قد يترتب على هذا الحدث من تداعيات ونتائج.
وفرض هذا نوعù من التغيير في بنية المؤسسة الصحافية.
استعاد الرأي بعض اعتباره المفقود، لكنه لم يعد الآن مجرد رأي شخصي لكاتبه، بل هو اقرب لأن يكون استخلاصù لوجهة سير الاحداث، استنادù الى تحليل لمواقف الفرقاء في ضوء المصالح التي تحكم مسلكهم.
لم تعد النبرة الشخصية مستحبة او مقبولة.
لا احد يريد رأيك بذاته. وباتت مهجورة تلك الكلمات من نوع »وإنني اعتقد«، »وفي رأيي«، الخ.
ومع سقوط الايديولوجيات والاحزاب، سقطت ايضù التعابير القوالب: ويرى حزبنا/ وفي تقديرنا/ وموقفنا الخ.
كانت السياسة العربية مؤسسات، او في طريقها لأن تصير مؤسسات:
تكتلات سياسية تمثل تقاطعù في المصالح بين فئات اجتماعية لها موقعها المؤثر في القرار.
او تحالفù بين احزاب وتنظيمات شعبية، او مزيجù من الاحزاب العقائدية والفعاليات الاقتصادية،
او تحالفù بين الاحزاب والقوات المسلحة التي اهلتها الهزيمة العسكرية في فلسطين لأن تتقدم الى واجهة المسرح السياسي وتصبح شريكا اساسيا في السلطة، قبل ان تتقدم اكثر فتحتكر السلطة مختزلة بذاتها جملة من المصالح الاقتصادية، خصوصا انها تمثل شريحة اجتماعية فضفاضة جدا تمتد من افقر الفقراء الى محيط الطبقة الوسطى.
وتدريجù تم التوحد بين الحزب والجيش عبر تجارب الحزب الحاكم، او حزب الحاكم كما في حالة العراق مثلاً، حيث يختزل الفرد الحزب والجيش والعشيرة الحاكمة في شخصه، مدعيا انه الشعب والامة معا.
اما في لبنان فقد جاءت الحرب الاهلية لتلغي الحياة السياسية بصراعاتها العقائدية المتعددة والتي كان محورها الموقف من النظام، معطية للصراع وجهة طائفية، كان لا بد في ظلها من انهيار البنية السياسية القديمة بتشكيلاتها المختلفة وبروز تشكيلات اخرى متسقة مع ضرورات الحرب: توارت الاحزاب العقائدية والايديولوجيات والتهمت الميلشيات الاحزاب، لأنها الاكثر فجاجة في التعبير عن الحالة الطائفية،
ولم تكن مصادفة، مثلا، ان يصبح بشير الجميل اهم من ابيه القائد المؤسس بيار الجميل ومن المؤسسة الحزبية القديمة، حزب الكتائب بهيئاتها القيادية المختلفة، ثم ان يختصر بشخصه وبوصفه المزيج من البطل والقديس والسفاح مرحلة كاملة، فيتقدم من قيادة الميليشيات ليتسنم في ظل الاحتلال الاسرائيلي رئاسة الدولة.
وحتى عندما سقط بشير الجميل فإن ورثته في تولي القيادة، وعلى ضفتي الحرب، كانوا من الطبيعة ذاتها: قادة ميليشيات طائفية خرجت من صلب تنظيمات سياسية ثم ألغتها او حورتها لتنسجم مع مقتضيات الأمر الواقع (امل بدلاً من حركة المحرومين، الميليشيات الدرزية بدلاً من الحزب التقدمي الاشتراكي، القوات اللبنانية بصليبها الشهير بديلاً من الكتائب والاحرار، من دون ان ننسى المردة وحركة التوحيد الاسلامي، والمرابطون الخ وصولاً الى ميشال عون الذي جاء به امين الجميل الى الرئاسة ليضمن به استمرار الحرب متوهمù ان ذلك قد يبقيه او قد يعيده الى السلطة…).
ولعل هذا ما يفسر ان الاقتتال، مع اقتراب الحل، قد انتقل الى داخل كل طائفة، وبين التنظيمات المتماثلة في منطلقها والمختلفة على حصتها من السلطة (حرب الإلغاء بين عون و»القوات«، انقلاب »القوات«، الحرب بين »امل« و»حزب ا”«، ناهيك بالحرب قبل ذلك بين »امل« و»المرابطون« وبين »امل« و»الاشتراكي« الخ…).
هل نذهب الى ابعد مما تسمح به معطيات الواقع اذا استخلصنا هذه التقديرات:
1 ان الهزيمة الاولى للحركة القومية كانت في المواجهة مع السلطة.
لقد سقطت الاحزاب والتنظيمات والقيادات القومية، وكذلك الجيوش التي صبغت بالعقائدية، في امتحان السلطة،
اندثرت المؤسسة العقائدية عبر اقتتال ضارٍ بين قياداتها حتى استقر الأمر للاقوى والاعظم قدرة على المناورة، او على الاستقطاب.
2 قادت الهزيمة في امتحان السلطة الى الهزيمة في مواجهة العدو الاسرائيلي وكلنا يذكر ان عبد الحكيم عامر، مثلا، كان معروفù بالفساد والافساد، وكان مدانù بتغطية المقصرين والفاشلين من قادة الجيش المصري، خلال الوحدة مع سوريا، او في مواجهة الانفصال، وفي حرب اليمن، قبل ان تجيء هزيمة 5 حزيران الصاعقة لتفضح حجم الاهتراء في قلب ذلك النظام الثوري الذي جسد لسنوات آمال العرب في النهوض من قاع الهزيمة والتخلف الى افق التقدم والغد الافضل،
وكان النصر في المواجهة مع المشروع الصهيوني في فلسطين هو اساس التعاقد الشعبي وجوهر الطموح المرتجى من ثورة 23 يوليو وقائدها الذي احتل منزلة البطل القومي الاعظم في قلوب العرب في العصر الحديث.
3 ان نظام حكم الافراد لا يلغي فقط الاحزاب ومؤسسات الدولة بل يلغي بداية السياسة. ان بلادù تقوم على افراد، كائنين من كانوا، بلغوا من العبقرية والإلهام والحنكة، هي بلاد بلا مؤسسات وبلا تقاليد وبلا حيوية، بلا معارضة وبلا جدل، وبلا صراع عقائدي او فكري او حزبي. انها بلاد بلا سياسة.
4 ان الهزيمة القومية في مواجهة المشروع الصهيوني قد اسقطت الحركة القومية لتعيد البلاد العربية جميعù الى انظمة ملكية اوتوقراطية.
من المغرب الى اليمن تقوم انظمة الافراد، المزينة بمؤسسات شكلية لا علاقة لها فعليù بالسلطة.
5 ان السياسيين العرب والحالة هذه لا يتجاوز عددهم عدد اصابع اليدين.
ولقد تم تعطيل النادي الذي كان يجمعهم (مؤسسة القمة) والذي كان يشيع جوا سياسيا ما، تتقوت منه المؤسسات الاعلامية.
6 نصل هنا الى الطغيان الاعلامي للدول والقوى الاغنى، ومن ثم الاكثر نفوذù.
ماذا تستطيع محطة الاذاعة في ام درمان بالخرطوم، مثلاً، ان تفعل في مواجهة الC.N.N والA.B.C وC.B.S ورويتر وA.P وU.P.I ووكالة الصحافة الفرنسية… بمعزل عن رأينا في سلامة عقل الدكتور حسن الترابي او في صحة توجهات عمر البشير؟! بل ماذا تستطيع دولة غنية، نسبيù، ولكن محاصرة مثل ايران وليبيا، ان تفعل في مواجهة الحملات التشهيرية العالمية التي تُشن على هذه او تلك، بغض النظر عن الرأي في سياسة النظام الاسلامي في طهران او نظام الفوضى المطلقة في طرابلس القذافي؟
في حال الصراع يفرض الاستقطاب نفسه: الاغنى هو الأقدر على تسخير وسائل الاعلام.
في حين يتوارى الافقر عن المسرح مرذولاً مسفهù لا يملك فرصة نشر وجهة نظره فضلا عن الدفاع عنها.
ايها الاخوة
من الظلم ان تحمل الصحافة ما لا قِبَل لها به.
فالصحف، والحديث هنا عن لبنان تحديدù، مؤسسات فردية يجتهد اصحابها في تأمين المداخيل الضرورية لإصدارها، في ظل ظروف تزداد صعوبة، وفي وجه منافسات حادة ترتكز على امكانات مادية خرافية، اذا ما استذكرنا وسائل الاعلام المرئي والمسموع العالمية وحتى العربية التابعة لدول او المرتبطة بأشخاص وشركات اغنى من دول (الوليد بن طلال، خالد بن سلطان، احمد بن سلمان، صالح كامل….).
الصحافة ام الصحف؟!
لا صحافة في لبنان. ثمة صحف ليس لها حاصل جمع.
النقابة اطار مهني بسلطة معنوية هشة، لأنها تعيش على تبرعات »الدول«، والدول تعني دائمù حكامها.
والصحيفة مؤسسة فردية يحكم اصحابها هاجس التوازن المادي لتأمين الاستمرار، في ظل ظروف من التنافس غير المتكافئ.
ان الاعلان سلطة سياسية او هو قرار سياسي
وبواقع التجربة العملية فليس صحيحù بالمطلق ان الاعلان يرتبط بالرواج وسعة الانتشار ورقم التوزيع.
وحين يطلب إليك المعلن ان توزع في السعودية، مثلاً، ليعطيك من موازنة الاعلان اكثر، فإن مثل هذا الطلب ليس مهنيù بل يمكنك تفسيره ببساطة كشرط سياسي.
وحين يصمك المعلن بأنك جريدة الفقراء ليحرمك من الإعلان الموجه الى ذوي القدرة الشرائية، فإن ذلك شرط سياسي مموّه، وان كانت خلفيته الطبقية مكشوفة.
هل اطلت الشكوى؟ وقد كان مأمولاً مني ان اقدم الحل؟!
ولكنني إنما قصدت تصحيح صيغة العنوان فالسياسة هي التي تجدد الدم في شرايين الصحافة: لا صحافة بلا سياسة، اي بلا حركة سياسية، بلا صراع سياسي/ اكرر: سياسي/ لا هو طائفي، ولا هو مذهبي، ولا هو جهوي، لأن كل هذه الصراعات تلغي السياسة وتحقرها وتعهرها ومعها الصحافة.
وطالما غاب العمل السياسي /الصراع السياسي/ الصراع الفكري العقائدي/ الصراع الطبقي، سيستمر غياب الصحافة او تردّي الموجود منها.
اننا مسؤولون كصحافيين، ولست هنا لأتبرأ من مسؤوليتي،
لكننا لا نكتب »لفش الخلق«، وبعدما »يفش« يعود كل الى ما كان يشغله في انتظار ان يصدر مقال ثان »يفش خلقه« غدا.
الصحافة منابر، منتديات ثقافية، فكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية
لكنها ليست مراكز قيادة. لا تملك ولا تقدر ولا يجوز ان تكون.
ليست الصحف في لبنان نشرات سرية تحرض على الثورة. لا هي »الايسكرا« ولا »البرافدا«، لا هي جريدة الثوار ولا جريدة الحزب الحاكم باسم الثورة حيث تتولى القيادة السياسية المسؤولية المباشرة عن التوجيه عبر الصحافة وسائر الوسائل الاعلامية.
لا يمكننا ان ننوب عن الحركة السياسية في قيادة الرأي العام، سواء بالاعتراض او بتأييد ما هو قائم. اننا ان فعلنا نتهم بالتجاوز وبالتنطح لمهمات تفوق قدراتنا وتشوّه دورنا.
قد نؤدي دورا في التعبئة، في التبشير، في التنوير، في كشف المخبوء، في فضح ما لا يجوز السكوت عليه من اخطاء.
قد نثير حركة واسعة من الجدل، قد نطلق النقاش حول القضايا المطروحة لنغني اقتراحات الحلول، قد نوصل الى الناس المعطيات الفعلية بالارقام والجداول والاحصائيات واستطلاعات الرأي، وقد نزيد على ذلك كله توقعاتنا وربما آراءنا.
لكن القرار ليس عندنا.
لا قرار السلطة عندنا، ولا قرار معارضيها،
لا قرار منع التجول عندنا، ولا قرار الخروج الى الشارع،
لا القرار المالي عندنا، بالضرائب والرسوم، ولا قرار التمنع عن دفعها ولو بالعصيان المدني.
لا نستطيع اختراع حركة سياسية، وبالتالي اختراع سياسة.
وبغض النظر عن آرائنا الفردية او اجتهاداتنا، فإن السياسة للسياسيين، للقوى والتنظيمات والتيارات والشخصيات التي تتصدى لقيادة العمل السياسي.
وفي بلد لا تحكم الغالبية المطلقة من السياسيين فيه منهجية معينة او برنامج حزبي معين، وتتبدل فيه التحالفات التي لا ترتكز لا على اساس طبقي ولا على معطيات واضحة، كيف السبيل الى دور للصحافة في تجديد الحياة السياسية؟!
ان العمل السياسي يجب الهوية الشخصية او الانتماء الشخصي.
من دون سياسة يسود التصنيف الطائفي او المذهبي.
تصبح المحاسبة على الاسم لا على مضمون الكتابة او استهدافاتها.
وبالتالي تخرج الصحيفة ويخرج الصحافي ويخرج الموضوع من الموقف السياسي الى الموقف الشخصي/ الطائفي او المذهبي.
في ظل هكذا تصنيفات تصير رئاسة الجمهورية وقفا مارونيا والحكومة وقفا سنيا والمجلس النيابي وقفا شيعيا ووزارة المهجرين وقفا درزيا. ان تعرض الصحافي لأي من هذه المواقع سقط في محظور اثارة النعرات الطائفية، او استخدام اداة لتسعير الصراع المذهبي الذي يستخدمه اصحابه مطية لأغراضهم الشخصية المغلفة بالسياسة.
حتى العقائد يسهل تطئيفها في زمن الانحطاط.
لقد مرت على لبنان لحظات صار فيها سهلاً الخلط بين شيوعي وشيعي، بين قومي سوري وأرثوذكسي، بين تقدمي اشتراكي ودرزي، وأسقطت الفوارق بين الاممية والقومية والوطنية والطائفية.
بذلك لا تعود مارونية الكتائبي عورة او عيبù نافرù، ويتساوى الكل في المستنقع الذي يميت السياسة ولا ينتجها.
كيف تجدد الصحافة الحياة السياسية؟
لا بد اولا من الخروج من ليل الحرب.
في الحرب الاهلية تكون الصحافة هي الضحية الاولى، مثلها مثل اية مؤسسة عامة/ تتوجه الى الجميع وليس الى فئة، تخاطب الجميع، وتكتسب اهميتها من الوصول الى الجميع واقامة جسر للحوار معهم وتحريضهم على الانخراط في الشأن العام.
وطالما استمر مناخ الحرب الاهلية مهيمنù فلن تتجدد السياسة ولن تستطيع الصحافة لعب دورها الطبيعي في المجتمعات الآخذة بالديموقراطية.
في مثل هذا المناخ تضمر السياسة/ يقفل الوطنيون ابوابهم على انفسهم خشية ان يصابوا بلوثة الطائفية وبالتالي الدم.
ومعنا هنا كثيرون ممن اوصلهم اليأس او العجز عن مواجهة ذلك السرطان الى الاستنكاف والاعتكاف والانصراف عن كل ما له علاقة بالعمل السياسي عندما تحول الى بيع للجثث واتجار بالشهداء، يرتفع الموقع بقدر ما يرتفع عدد الضحايا، وتزاد الحصة بقدر ما تجمع من الجثث كشهداء لك او ضحايا لخصومك.
اولاً: لا بد من اعادة الاعتبار الى الدولة كفكرة ثم كمؤسسات تخص الجميع، يدفع الجميع تكاليفها لتقوم بخدمة الجميع.
ثانيù: لا بد من اعادة الاعتبار الى الشارع.
ليس الشارع متراسù، وليس تخمù بين طائفتين، وليس خندقù للقتل على الهوية، انه اداة وصل لا اداة قطع، وهو ارض لقاء لا ارض صراع بين ابناء المصلحة الواحدة والهدف الواحد.
يتصل بذلك انه لا بد من اعادة الاعتبار الى الحزب، التنظيم الشعبي، النقابة، الجمعية، النادي الثقافي الخ من اشكال التنظيم في المجتمع الاهلي.
لا بد من كسر القوقعة وتحطيم الحواجز التي فصلت بين جانبي الوجه، بين الذراع والصدر، بين العنق والرأس، بين الفكرة والعمل.
من اين تكون البداية؟
الانتخابات اولا، والانتخابات ثانيا، والانتخابات ثالثا.
الانتخابات البلدية والمختارين، الانتخابات النيابية، انتخابات النقابات المهنية، انتخابات الاندية والروابط والجمعيات.
لا بد من ان يعود الناس الى ما يجمعهم في المصالح والرؤية والطموح، بدءù من هموم معاشهم الى هواجسهم حول مستقبلهم.
لا بد من ان يستعيد كل منا الاحساس بأنه ليس وحده، وبأنه جزء من كل، لا يأخذه التعصب الى الانعزال، ولا تأخذه وحشة الانفراد الى الاستقالة من دوره كمواطن.
الانتخابات هي المؤهلة لأن تكون لحظة القطع مع ماضي الحرب الاهلية، ولحظة الوصل مع مستقبل السلم الاهلي.
الانتخابات قد تكون المطهر او فعل الندامة او فعل التوبة.
في الانتخابات لا تعود وحدك. فبقدر ما هي لحظة الحقيقة لكي تستحضر ذاتك، فإنها كذلك مساحة للشعور بأنك واحد من كل، او واحد من مجموع يرى رأيك، ويفكر مثلك، ويبحث عنك لكي يتقوى بك ولكي تصنعا معù يومù مختلفù عن الامس، وغدù مشتركù ومضيئù.
ومع الانتخابات تعود السياسة لتغلب الطائفية والمذهبية وما اشتق منهما من اوبئة.
فالانتخابات توازنات، وتحالفات وحسابات تفرض الاعتدال فرضù وتجبر الطائفيين على التواري او على تغيير منهجهم جذريù ليصيروا مقبولين وليحظوا بأصوات »الآخرين« الذين كانوا ينوون تهجيرهم او استئصالهم او شطبهم من المعادلة.
من خارج النص، وبالتعدي على صلاحيات السياسيين، يمكن القول ان بين شروط تجديد الحياة السياسية، ومن ثم تجديد الصحافة ودورها، انتهاء المرحلة الانتقالية في لبنان التي استوجبت او بررت قيام حكم الترويكا.
كانت »الصيغة« تقضي بقيام حكم او حكومة المصالحة الوطنية، لكن بعض المعنيين رفضوا فقاطعوا وآخرين قبلوا ثم خرجوا فانتهى الأمر بحكم اهل الصيغة بمن حضر.
والترويكا تلغي السياسة مرتين: ان اتفق الثلاثة لا ضرورة للسياسة بصراعاتها المنهكة، وان اختلفوا لا يتولد وضع سياسي، فالمكايدة مثل المحاصصة، من خارج السياسة، وهي تلغيها ولا تستولدها.
ما هي الترويكا؟ هي ان يلغي كل رئيس المؤسسة التي يتولى رئاستها. فرئيس المجلس هو المجلس، ورئيس الحكومة هو الحكومة، ورئيس الجمهورية هو الطرف الثالث في معادلة ذات جذر طائفي، وليس الحكم ولا هو الرقيب الضامن للفصل بين السلطات.
اتفاق الترويكا صفقة، لا تنفع الوحدة الوطنية، بالضرورة، واختلافها فتنة، تهدد بزيادة مساحة الانقسام في البلاد.
والترويكا تلغي الدولة لأنها تلغي مؤسساتها، وتجعل السياسة نوعù من العبث في ارض فراغ،
ولا بد من استحضار الدولة ومؤسساتها لتجديد الحياة السياسية،
ومن هنا اعتبرنا ان الانتخابات هي المدخل الشرعي.
ومع الانتخابات، وبوصفها تجديدù للحياة السياسية، يمكن ان تعود الى الصحافة روحها ومن ثم دورها كمنتدى سياسي فكري ثقافي، وكمنبر للحوار، وكأرض للجدل وللصراع الديموقراطي بين الآراء والاجتهادات والمواقف التي تنطلق من الدولة وتعود إليها.
على ان المدخل الصحي والصحيح انه لا بد من عودة بيروت الى بيروت.
لا بد من ان تستعيد هذه المدينة روحها ودورها المجيد.
لقد كانت بيروت عاصمة السياسة العربية، وبالتالي عاصمة الاعلام العربي، عندما كان للعرب احزاب وتيارات وقوى شعبية منظمة تتنافس على تقديم نفسها كأداة للتقدم والعدالة الاجتماعية والحكم الديموقراطي.
وطالما غابت بيروت، المنتدى الفكري والثقافي، والشارع الوطني العربي، مطبعة العرب وكتابهم، شفاههم ومقهاهم، مصرفهم وصحيفتهم وقهوة الصباح، فستظل السياسة في لبنان معتلة، وستظل الصحافة مهمشة ومحدودة التأثير، خصوصù بعدما نزل الامراء بأنفسهم الى مجال المنافسة، فحطموا بملياراتهم الاقلام والافكار والكثير من الاحلام.
وها قد وصلوا إلينا في عقر دارنا في بيروت، وعبر وسائل الاعلام جميعù، المرئي والمسموع والمكتوب.
ولعلهم آتون بغرض تجديد الدم في الحياة السياسية عبر الصحافة، وهذا ما نعجز عنه، ليس لأننا من خارج الاسرة الحاكمة، بل اساسا لاننا لا نستطيع ان نكتب بالذهب الاسود افكارù خضراء.
وتبقى لي قبل شكر الختام كلمة اتوجه بها الى هذه الندوة التي تضم حشدا من أهل الرأي والمهتمين:
أين انتم؟!
أين دوركم وامثالكم؟
لماذا تكتفون بأنفسكم ولا تتقدمون في اتجاه الناس؟!
لماذا لم تتحولوا الى مركز سياسي؟!
وأين إسهامكم في تجديد الحياة السياسية.
البراءة لا تكفي، والابتعاد بحجة الحرص على النظافة يوسع المساحة المتاحة امام المتعيشين على الفساد.
اقول قولي هذا واستغفر ا” لي ولكم، وشكرù لكم انتم وسعتم صدوركم لسماع هذه المطالعة التي لا اريدكم ان تعتبروها كتاب استقالة من الصحافة اقدمها لمن لا اريد اعتبارهم مستقيلين من السياسة، الا اذا لم نستطع صنع التجديد هنا وهناك.
والسلام عليكم ورحمة ا” وبركاته.
* النص الكامل لمحاضرة رئيس تحرير »السفير« في» ندوة العمل الوطني« أمس الأول الخميس.

Exit mobile version