طلال سلمان

“السلام”… “القاتل”!.. التيه العربي في الزمان الإسرائيلي

انتهت سنة أخرى من “الزمان العربي” الذي ينسحب من دائرة الفعل لينحصر في الذاكرة. وبدأت سنة جديدة من “الزمان الإسرائيلي” الذي يخرج من صلب الأسطورة التي كانت محصورة في الاكرة ليكون هو الفعل ودائرته.
لكأن العرب يخرجون من الزمان الحاضر إلى التيه في تلافيف أوهام وأخيلة لا تصلح لتحديد ملامح مستقبلهم، وإن كانوا يتشبثون فيها لأنهم فقدوا الإرادة والقدرة على التحكم بالتحولات التي تغير واقعهم بأسرع مما كانوا مستعدين لها.
بل لكأن العرب، بمجملهم، يميلون بداعي التعب للاستسلام لما يقرره لهم “أعداؤهم” الإسرائيليون، مطمئنين إلى أن زمانهم مثل أرضهم أوسع مما يحتاجون، ومهما اقتطع منها ومنه فسيظل لهم ما يكفي لاصطناع تاريخهم القديم مجدداً.
قبل سنوات، مثلاً، كان مجرد الحديث عن “الشرق أوسطية” جريمة تعادل الخيانة العظمى.
اليوم يتنافس ملوك العرب وسلاطينهم، قادتهم والمفكرون، ساستهم والمثقفون على ادعاء شرف السبق في حيازة “الهوية الشرق أوسطية”، التي تشهد بأنهم قدا غادروا فعلاً “التعصب”، وأنهم نبذوا “التطرف”، ونفضوا اليد عن علاقتهم بالأرض والشمس والهواء، وأنهم جاهزون للاعتذار عن سوء تصرف جدودهم الذين “اغتصبوا” بالإرهاب هذه المنطقة الموقوفة لأبناء عمومتهم المنضوين تحت لواء “شعب الله المختار”.
سقط من الذاكرة المنهكة بأثقال المتراكم فيها كل ما كان منهم اعتراضاً ورفضاً للفصل بين لحومهم والعظم، بين تاريخهم والأرض،
نسوا أو أنهم تناسوا كما تظاهر المتظاهرون ضد المحاولات الخبيثة لمسح سمرة التراب عن بشرتهم.
وفي الصور العتيقة المخزونة في أرشيفات الصحف، احتبست الشوارع التي تغص بالغضب وفيها جلاوزة السلطان يطلقون النار على الرفض فيسقطون القتلى والجرحى، في حين تصيب حجارة المنتفضين “المشروع الاستعماري” إصابات مباشرة!
وأسقطت من الذاكرة المثقوبة كل تلك الأدبيات التي كانت ترى في إسرائيل “الكيان المزعوم”.
بات العرب هم المزعومون: دولهم بعروشها والعائلات الحاكمة، جيوشهم بالطائرات الباهظة الأثمان والتي لم يروها مرة في الجو، اللهم في الاستعراضات وهي تنفث الدخان الملون باسم السلطان، والدبابات اللامعة لقلة الاستخدام وارتفاع تكاليف الصيانة، والبوارج التي يتهددها الصدأ ويتهدد مرساها الاستنقاع.
صار العربي يقدّم للعالم بوصفه “رجلاً بملامح شرق أوسطية”، بينما الإسرائيلي الدخيل صار إسرائيلياً لكنه لم يعد دخيلاً بل مواطناً في الدولة العبرية التي من أجلها أسقطت القومية وانتهكت العروبة فحوّلت إلى “عورة” أو مرض معد كالبرص، يهرب بها المبتلي بها من عيون الناس.. الفضاحةّ!
لم يكن “الزمان العربي” هو سبب التيه اليهودي،
وليس “الزمان الإسرائيلي” هو وحده سبب التيه العربي،
وفي أي حال فإن التيه العربي مرشح لأن يطول، لأن رحلة الخروج من الزمان العربي قد أسقطت كل العلامات والأنوار الهادية ودمرت التخوم بين الصح والخطأ فاختلط كل شيء بكل شيء حتى بات صعباً تحديد نقطة بداية أو نقطة انطلاق جديدة.
لقد استهلك العرب العقائد جميعاً، تقريباً، من دون أن يطبقوا أياً منها فعلياً.
أقاموا عروشاً ولم يقيموا ممالك،
أعلنوا جمهوريات قبل أن يقيموا دولاً.
وأشادوا مباني فخمة أطلقوا عليها اسم البرلمان أو مجلس الشعب أو مجلس الأمة بينما هم يلغون الانتخابات التي بالكاد عرفوها،
نادوا بالثورة ثم قفزوا منها إلى السلطة، قبل أن تستكمل نموها، ثم حموا مواقع السلطة بجماجم الثوار القدامى بجريمة أنهم ضبطوا فيها (عندما كانت رؤوساً) أحلاماً بالتغيير،
رفعوا رايات الاشتراكية ليستدرجوا عروضاً أفضل من المعسكر الرأسمالي، فلا اشتراكية بنوا ولا تركوا الرأسماليين يبنون وسائل الإنتاج تمهيداً لاحتكاره.
ثم كان ذلك الصراع الكاريكاتوري حول الدين والدنيا،
فهم صادروا الدنيا باسم الدين، فلما طالبهم الناس بالخبز قالوا: هذا ما قسمه الله لكم، فإن اعترضتم قاتلنا فبكم الكفر!! أما حين سألهم الناس العدل فقد اتهموهم بالانجراف مع التيار الالحادي القائم على مقولة “الدين أفيون الشعوب”!
لا هم بقوا في الإسلام وسعوا إلى تفسير مبادئه وقيمه بما يجدد أهليتها لبناء مجتمعات عصرية، ولا هم تركوه مصدراً لليقين وانطلقوا يعالجون شؤون حياتهم بما يتناسب مع خطورتها من قوانين يفرضها التطوار واستيعاب روح العصر.
اشتبكوا مع العروبة بداعي حماية الإسلام.
ثم اقتتلوا مع الإسلام بذريعة الانفتاح على الديموقراطية والتعددية السياسية واقتصاد السوق.
لكنهم، وعند أول ممارسة شبه ديموقراطية، أخرجوا الدبابات لتواجه صناديق الاقتراع فحطمتها تحطيماً وداخلها المقترعون!
وها هم الآن في صحراء التيه: لا عروبة ولا إسلام، لا ديموقراطية ولا جيوش، لا دول ولا مجتمعات ، لا يقين ولا إيديولوجية مادية.
أين الامتداد؟!
كل جيل يتنكر لسلفه وينكر خلفه،
الابن يهرب من أبيه حتى لا يُحاسب على أخطائه، والأب لا يجد ما يبرر به خيبته غير الادعاء أن موروثه الوجداني والثقافي كان سداً منعه من أن يستشف صورة المستقبل.
وينتهي الأمر بالجميع إلى الانبهار بالعدو: هذا الهائل القدرة الذي اخترق بقوة نفاثة أسرع من الصوت غياهب التاريخ مندفعاً من الماضي السحيق والميت، من الأسطورة التي لا تصمد للعقل. إلى قلب المستقبل الذي ما كان ليود لاولاه!
وهكذا ينقلب الصراع مع “العدو” إلى صراع لا ينتهي مع الذات: فالماضي أبعد مما يجب لكي يستقوي به، والحاضر أتفه من أن يصمد، والمستقبل يحتاج إلى إنسان سليم معافى لكي يبنى.
هل الدين في الماضي أم في المستقبل؟!
هل المستقبل في الدين أم هو نقيضه؟!
هل الديموقراطية خارج الدين أم داخله ، وهل هي نقيضه أم هي من طبيعته؟!
هل الله هو السلطان أم أن السلطان هو النبي الدجال، الذي يأخذ الناس بعيداً عن الله؟!
هل يتعايش الله والسلطان في صدر إنسان واحد، أم لا بد أن يخلي أحدهما مكانه الآخر لكي تكون حياة، ولكي تزهر الأحلام، ولكي تزهر الأحلام، ولكي ينفتح الطريق إلى الغد؟!
لن ينتهي التاريخ بنهاية سنة 1994، ولا هو سيبدأ مع بداية سنة 1995.
كذلك لن ينتهي الصراع مع العدو، كما مع الذات، في الفترة الفاصلة بين سنتين أو بين عقدين أو حتى بين قرنين.
والمؤكد أنه لا بد من حسم أشكال الصراع كافة، في الداخل ومع الخارج، قبل أن تتحدد صورة المستقبل وقبل الانتقال إليه لنكون فيه.
ولعل كثيراً من المتعجلين “السلام” المتلهفين إلى دخول الزمان الإسرائيلي يفترضون، عن حسن نية، أنهم بذلك يعجلون طي صفة ماضي التخلف المتحدد في الحاضر، ويستعجلون الزمان الآخر.
إنهم يفترضون أن الزمان الإسرائيلي قد يريحهم من أنظمتهم التي ألغت زمانهم وسلمتهم إلى العدو حطاماً.
أي أنهم يتوهمون أن إسرائيل قد جاءت لتطور مجتمعاتهم ترشد خياراتهم وتساعدهم لكي يحسموا أخيراً فيعززوا الصح من الخطأ ويتبينوا طريقهم إلى بناء مجتمعاتهم الديموقراطية السليمة!
أي أنهم يطلبون من عدوهم أن يحقق لهم ما عجزوا عن تحقيقه بأنفسهم!
وأمثال هؤلاء أسوأ من حكامهم!
فإذا كان الحكام قد صادروا الماضي وقزموا الحاضر فإن هؤلاء يغتالون المستقبل.
والحل؟!
الحل أن نسلم أولاً بأن لا حل قريباً.
والحل بأن نعترف ثانياً بمشكلات واقعنا المتخلف، وأن نبحث حتى التعب عن أسبابه وعن ترسباته لكي نستطيع تحديد العلاج،
والحل بأن نظل نحن نحن، فلا تنكر أنفسنا وهويتنا ، ولا تزور أسماءنا حتى لا يأخذنا العدو بجريرة الانتماء إلى تاريخنا،
والحل بأن نقاوم ونقاوم ونقاوم،
نقاوم الغلط فيها، ونقاوم الانحراف في حكامنا، ونقاوم محاولات الاقتلاع التي يمارسها العدو ضدنا على مدار الساعة: في الأرض كما في الثقافة، في القيم كما في التاريخ،
فلسنا لقطاء مرميين خارج الزمان،
ولسنا قطعاناً من العجزة والمغفلين يسوقنا سلاطيننا إلى حيث شاءت مصالح عروشهم، أو “نتمرد” عليهم فنغيظهم بأن نسبقهم إلى عدونا.
الحل أن نعي أخيراً أن الزمان ليس بضاعة جاهزة تنزل إلأى السوق فنشتريها لنرتديها في العيد.
تصنع زمانك بيدك أو تتوه في زمان عدوك، ولا حل وسطاً بين الأمرين.
فاصنع زمانك بيمينك ويبقينك، كائناً ما كان هذا اليقين،
وكل عام وأنتهم بخير.

Exit mobile version