طلال سلمان

السكون.. ما له ما عليه

خطر لي منذ أيام أن أقارن بين حالي في فترة عشت خلالها في منطقة سكنية هادئة وحالي عندما عشت في منطقة سكنية عامرة بالناس والحافلات وخطوط الترام وزحام الأسواق. مرات عديدة اخترت سكنا في منطقة هادئة، أكاد لا أسمع فيها إلا أصوات عصافير وطيور شتى وأغصان شجر تتعانق أو لعلها تتشاجر وقطط تتنادى في موسم التنادي. رحت إلى هناك باحثا عن هدوء مطبق. عرفت بالمعايشة أن السكون المطلق لا يوجد إلا في خيال الفارين من ضوضاء المدن. وجدت نفسي بعد قليل أجيد الاستماع إلى صوت أنفاس الصامتين من ضيوفي. بل وكثيرا ما استمتعت أنا نفسي بنوبات ارتياح لرتابة أنفاسي. ذكرتني تلك النوبات بساعات سهرتها أستمع إلى أنفاس صغيري في ليلة قارسة البرد قضيتها إلى جانب فراشه في بيتنا الكائن على طرف حى يقع خارج مدينة بكين، حي لا زرع فيه ولا ضرع ولا صوت حتى صوت العصافير بعد أن صدرت أوامر الحزب بإبادة عصافير الصين وقد ضبطت متلبسة بالتهام حبوب القمح وهي ما زالت على سنابلها في الحقول.

***

أظن أنني تعرفت على حالة أقرب ما تكون إلى السكون المطبق. سكنت بيتا في ضاحية من ضواحى تونس العاصمة. البيت يبعد عن شاطئ البحر خمسين مترا لا أكثر، تخفيه عن أبصار الفضوليين غابة من النخيل. تعمدت عندما اخترته أن يكون بعيدا عن الطرق العمومية، يربطه بها وبالعالم الخارجي طريق لا يمر فيه إلا من يكون قاصدا بيتي. لا بد أن أذكر بهذه المناسبة أن شرفة هذا البيت شهدت مساجلات لأصدقاء يساريين من مصر. عرفت فيما بعد أن تسجيلات لها كانت تصل تباعا إلى أجهزة أمن مصرية تطوع أحد قادتها الكبار بكشف المستور منها خلال زيارة للقاهرة قمت بها في بدايات عهد الرئيس مبارك. قيل لي وقتها إن المساجلات كانت مسموعة بوضوح لعملاء تونسيين أقاموا وكرا في غابة النخيل المحيطة بالمنزل. كان الوضوح الذي اتسمت به التسجيلات دليلا على حال السكون في المكان. هذا السكون الذي يرتفع إلى أقصى الدرجات في ساعات الفجر. حينها كان البحر يسكت والنسمة تجبن والطيور لا تنطق. إنه السكون الذي لا أطيقه، صمته يقمعني وهدوءه يخنقني.

***

الأديرة تقام في أحضان الجبال وفوق القمم حيث لا صوت إلا صوت الرعد عند هبوب العواصف. الأنبياء اختاروا ملاذات في قلب الصحارى وبين التلال ليختلوا فيها مع الوحي بعيدا عن تجمعات البشر العاديين. الجامعات الكبرى، ومنها جامعة فؤاد الأول، انشئت في ريف الجيزة بعيدا عن أصوات العاصمة والعمران. ارتبط في ذهني دائما السكون بالإبداع. زيوس كبير الآلهة يعيش في جبل أوليمبيا وحوله مجتمع الآلهة. النبي موسى ترك شعبه واختار وادي طوى مكانا نائيا اختلى فيه بنفسه وربه وعاد إليهم بوصاياه العشر. النبي محمد اختار غار حراء خلوة مهدت للقائه بالوحي حامل الرسالة. معظم الأنبياء والرسل والدعاة والصوفيين والمخترعين والفلاسفة وأصحاب الأفكار فضلوا في مرحلة أو أخرى من مسيراتهم الاختلاء بأنفسهم في ملاذ بعيدة ما أمكن عن الضوضاء.

استلهاما من تجارب الخلوات ذاعت في أوروبا وآسيا في السنوات الاخيرة فكرة نميسة عنوانها حفلات الصمت. يؤجرون مقهى أو مطعما ليلة كل أسبوع. تبدأ السهرة بالصمت التام لمدة ساعتين. لا موسيقى ولا أصوات تصدر من المطبخ وجميع النوافذ والأبواب محكمة الإغلاق ومزودة بعوازل صوت. لا شىء يصدر صوتا. يجلس الضيوف وفي يد كل منهم كتاب يقرأ فيه. يقول منظمو هذ السهرات إن السكون التام لمدة ساعتين والامتناع عن الكلام يجددان صلاحية الإنسان ويشحذان ذكاءه ويشحنان طاقة الاستماع وقوة التركيز.

***

سألت متخصصة في العلاقات العاطفية عن حقيقة ما يقال عن فائدة السكون عند التعارف. أجابت بأنها هي نفسها تنصح بأن يحاول الطرفان، الرجل والمرأة، أن يخلقا الظرف الذي يسمح لهما بأن يقضيا دقائق يفضل أن تكون عديدة يتأمل كل منهما الآخر في صمت. لا تحيط بهما أصوات مزعجة أو عالية ولا حتى موسيقى لافتة للانتباه. «أنا واثقة»، أضافت الخبيرة، «أن هذه الدقائق كافية وحدها لنقل رسائل أصدق وأقوى من كل الرسائل الكلامية التي يمكن أن يتبادلها الاثنان في تلك الدقائق».

نحن، بنات حواء، نحتفظ بعبقرية فريدة وهي قدرتنا الطبيعية على التمييز بين نظرة حب ونظرة تحرش. أستطيع رصد المتحرش من بين عشرة رجال ينظرون ناحيتي. أستطيع كذلك رصد المعجبين عن صدق ومن القلب. امنحني السكون واطلب من الحاضرين الصمت وأنا أسلمك من بينهم متحرشا محترفا وآخر محتملاً. عادت وأكدت الشرطين اللازمين لكشف حقيقة نوايا الرجل من نظراته، أما الشرطان فهما عينان مدربتان وسكون شبه مطبق.

***

أسمع، وأعرف عن تجربة، أن تناول الطعام مع غرباء في صمت ينسج حميمية لا تزول بسهولة. أما التجربة فتعيش عميقة في الذاكرة. كنا أطفالا يلقنوننا آداب المائدة ومنها ألا نتكلم أثناء الأكل. لم ندرك وقتها أن كليهما، الأب والأم، كانا يستغلان السكون لقراءة عيوننا وكشف أسرارها. الغريب، بل والمثير، هو أن الناس عادوا يتناولون الطعام في سكون فرضته أجهزة التواصل الإلكترونية التي لا تخلو منها يد تأكل أو تلهو. الغريب أيضا هو أنني بعد تلقين طويل الأجل في آداب المائدة وبخاصة مراعاة السكون والامتناع عن الكلام وجدت نفسي في سن الشباب والإعداد لمهنة الدبلوماسية أتلقى دروسا في فنون اللياقة واللباقة وآداب المائدة تحثني على قتل السكون والإكثار من الكلام مع جيراني على مائدة الطعام.

***

ما أحلى السكون في أوقات وأماكن بعينها، ما أطيب التأمل في عيون من تحب، وما أمتعها فرصة حانت لفضولي ليقرأ عيونا تعودت الاختفاء بأسرار صاحبها أو صاحبتها وراء نظارات شمسية.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version