طلال سلمان

“السفير”: مذاق قهوة الصباح

نشرت  هذه المقالة “لصحيفة السفير مذاق قهوة الصباح” اليكترونيا في مطلع العام 2017 في أعقاب غياب صحيفة السفير عن المشهد الصحفي العربي. واليوم أعيد نشرها مع رحيل صاحب السفير الاستاذ طلال سلمان،الذي فقدنا برحيلة مناضلا عروبيا سكنته فلسطين وقضيتها وحب أهلها حتى الرمق الأخير من حياته.

ما عاد لقهوة الصباح مذاقها المعتاد منذ أن هوت نجمة “السفير”، فجأة، في مطلع العام 2017 من سماء الصحافة العربية الملتزمة بقضايا الأوطان والناس البسطاء والمقهورين الذين منحتهم صوتها.

اعتدنا قراءة “السفير” مع قهوة الصباح طوال 43 عاما حتى أصبحت جزءا من طقوسنا اليومية، التي نبتدأ بها نهاراتنا قبل الانصراف إلى مشاغل العمل والحياة. لم تخذلنا “السفير” ولا مرة، حتى في أشد اللحظات قسوة، التي كان الموت ينشر فيها أجنحته الفولاذية فوق سماء بيروت إبان حصار الآلة الحربية الإسرائيلية الهمجي والمجنون لبيروت الجميلة عام 1982.

كنا على موعد دائم مع حمامة “السفير” البرتقالية، التي ابتدعها الفنان المصري الموهوب حلمي التوني لتنقل إلينا وقائع الصمود والبطولة لأهل بيروت وناسها الطيبين ولمقاوميها الأبطال لبنانيين وفلسطينيين، كما كنا على موعد حميم مع “حنظلة”، فتى ناجي العلي البسيط، ولكن البليغ في علم السياسة والاجتماع البشري، والذي كان ببساطته وإيجازه وبعد نظره الثاقب يغنينا عن أكوام من التحاليل والتقارير التي كانت تضج بها وسائل الإعلام التي واكبت تلك الحرب على امتداد العالم.

من عاش تجربة حصار بيروت لا يمكن أن تمحى من ذاكرته أهوال ذلك اليوم الرهيب من شهر آب (أغسطس) عام 1982، يوم جُنّت الآلة العسكرية جرّاء صمود بيروت وأهلها ومقاتليها، فصبت حممها من الجو والبر والبحر بشكل عشوائي ومتواصل على المدينة طوال النهار والليل، حتى خيّل إلينا أن بيروت الجميلة قد دمرّت بالكامل وأصبحت أثرا بعد عين.

ولكن في صباح اليوم التالي خرجت “السفير” وعلى صفحتها الأولى كاريكاتير ناجي العلي يصور بيروت فتاة بهية مليحة بجدائل طويلة تطل بوجهها الجميل من كوّة في جدار بناء مدمر، فيخاطبها حنظلة قائلا: “صباح الخير يا بيروت” وهو يقدم إليها وردة.

هذا الكاريكاتير الشهير عبّر بشكل مدهش وبليغ في آن عن روح المقاومة لدى أهل المدينة. وفي بلاغة كاريكاتير ناجي العلي يقول طلال سلمان: “كثيرا ما مزقت افتتاحيتي بعد مشاهدة لوحات ناجي العلي، التي كان يلخص ما أردت قوله بخطين أو ثلاثة”.

بعد مشاورات معمقة مع العديد من الكتاب والصحافيين والفنانين وأصحاب الرأي العرب جرت في العام 1973 ولدت “السفير”، وصدر العدد الأول منها في 26 آذار 1974. كانت ولادة “السفير” طبيعية للغاية، وفي وقتها تماما، حيث جاءت في أعقاب حرب تشرين 1973 البطولية، التي أعادت الاعتبار، لصورة المقاتل العربي بعد عار هزيمة 1967، كما تزامنت مع تزايد الاعتراف الدولي بالحركة الوطنية الفلسطينية، الذي توج في العام 1975 بالاعتراف بمنظمة التحرير عضوا مراقبا في الأمم المتحدة.

كما جاءت تلك الولادة في أعقاب تشكيل “الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية” (أواخر العام 1972) بقيادة الشهيد كمال جنبلاط، وترافقت ولادة “السفير”، كذلك، مع تجمع نذر الحرب الأهلية في سماء لبنان وبروز إرهاصاتها الأولى، وبالتالي نشوء الحركة الوطنية اللبنانية المساندة للثورة الفلسطينية في وجه نزعات “الانعزالية اللبنانية”.

وبذلك واكبت “السفير” الحرب الأهلية بكل مراراتها ووحشيتها. وكانت الصوت الصادق المعبر عن طموحات الحركة الوطنية اللبنانية في ولادة لبنان عربي ديموقراطي يحقق العدالة الاجتماعية لكل اللبنانيين، من دون استثناء، ويرتبط بقضايا الأمة العربية، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية.

وفوق ذلك كله، جاءت ولادة “السفير” في ذروة نمو المؤسسات الثقافية والفنية والإعلامية والبحثية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وخاصة مركز الأبحاث ومركز التخطيط، حيث استقطب هذان المركزان أبرز الباحثين والكتاب والمفكرين العرب اليساريين الذين وجدوا في الثورة الفلسطينية ومؤسساتها ومناخ الانفتاح الذي أشتهر به لبنان ملاذا آمنا للهروب من قمع الأنظمة العربية. وكان مركز الأبحاث مركزا عربيا بامتياز، وكذلك كانت مجلة “شؤون فلسطينية”. وهذا ما تدل عليه إصدارات المركز وأسماء كتاب المجلة.

وقد أغنى هؤلاء الكتاب والمفكرون العرب الذين التحقوا بالمؤسسات الإعلامية والثقافية والبحثية الفلسطينية تجربة الصحافة اللبنانية بشكل عام، ومنها تجربة “السفير”. وفي هذا الصدد تحضرني شهادة فريدة أسرّ بها عميد الصحافة اللبنانية، الراحل غسان تويني، لدى استضافته من قبل “الملتقى الفلسطيني” الذي كان يديره الدكتور أنيس صايغ، وهو ملتقى كان يحضره عدد محدود من الأكاديميين والمفكرين والكتاب ورجال الأعمال الفلسطينيين، ولا تنشر مداولاته. يومها قال غسان تويني: “بعد العام 1982 فقدت الصحافة اللبنانية نكهتها الفلسطينية”. والمقصود النكهة الثقافية والفكرية العربية التي أضفتها الثورة الفلسطينية على الحياة الثقافية في لبنان.

نبتت “السفير” في هذه التربة الوطنية والقومية الخصبة المتفاعلة مع الثورة الفلسطينية، وتغذت من الحلم الثوري الواعد الذي ميّز مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. كانت “السفير”، ومن دون أية مبالغة، جريدة فلسطين في لبنان بقدر ما هي جريدة لبنان وجريدة العرب. وفي واقع الحال كانت هناك ضرورة لظهور صحيفة من نمط “السفير” تشكل منبرا للدفاع عن القضية الفلسطينية، وخاصة بعد أن توقفت صحيفة المحرر وملحقها “فلسطيننا” عن الصدور. وكان صاحب تلك الصحيفة هشام أبو ظهر، كما من رؤساء تحريرها غسان كنفاني، ومن فرسان الكلمة فيها الأستاذ شفيق الحوت.

وكما المحرر، أصدرت “السفير” أيضا “ملحق فلسطين”. وصدر العدد الأول منه في الذكرى الثانية والستين للنكبة (14/5/2010). ومما قاله طلال سلمان في افتتاحية العدد الأول من الملحق: “هذا الملحق لفلسطين مطهرة من السلطة والسلطات المضادة، لفلسطين الغد. ومحرروه هم الفلسطينيون جميعا، أي العرب كلهم”.

 

واكبت “السفير” مسيرة الثورة الفلسطينية في لبنان قبل العام 1982 وبعده. وعلى سبيل التذكار غطت “السفير” لحظة بلحظة حصار مخيم تل الزعتر وسقوطه بأيدي الميليشيات اللبنانية اليمينية. وكان عنوان صفحتها الأولى في(12/8/1976)  “المجد لصمودك يا تل الزعتر”. كما كتب جورج ناصيف في العدد نفسه يقول: “يا تل الزعتر، يا عريسنا، يا زين الشباب، ما سقطت، ما سقطت، ولكن نادتك فلسطين فارتحلت عاشقا”.

وكانت “السفير” الصوت الأقوى والأكثر جرأة في الدفاع عن كرامة الشعب الفلسطيني وحقوقه في أشد الفترات قسوة وقتامة، في مرحلة ما بعد خروج منظمة الحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982 والاستفراد بالشعب الفلسطيني، أي فترة الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، ومجازر صبرا وشاتيلا، وتوقيع اتفاق 17 أيار 1983 وما رافقه من قمع مخابراتي للفلسطينيين، إلى آخره.

مع إدراكنا لأزمة الصحافة الورقية وتفاقمها في أكثر من بلد، ومع وجود سوابق على ذلك تتعلق بأهم الصحف العالمية، لم نصدق، أو بالأحرى لم نرد أن نصدق، الإشارات والرسائل الأولى التي بعث بها طلال سلمان، صاحب “السفير”، عن إمكانية توقفها عن الصدور. وكنا نأمل أن تتجاوز “السفير” أزمتها المالية إلى أن جاء الخبر اليقين والصاعق.

ولكن نصري صايغ، وهو جزء أصيل من ذاكرة “السفير” وذاكرة الصحافة اللبنانية، يضع المسألة في إطار أزمة المجتمع والنظام السياسي الاجتماعي اللبناني، إذ يقول: “المسألة المالية نتيجة لا سبب. أزمات الصحافة مع التمويل والدعم مزمنة، هذه المرة المسألة مختلفة. نضوب المال، ونضوب القراء ونضوب الإعلان، متأتٍ من نضوب الوطن ونضوب المؤسسات ونضوب الأحزاب ونضوب النقابات ونضوب الأحياء، وهم أموات يرزقون”.

وفيما يتعدى الواقع اللبناني، يصح القول أيضا أن المسألة المالية هي نتيجة وليست سببا لأزمة الصحافة الورقية عبر العالم، نتيجة لعوامل عدة تقع في صلبها الثورة التكنولوجية وثورة المعلومات، وما رافقهما من تطور مدهش ومتسارع لوسائل التواصل الاجتماعي، دون أن نغفل، الأسباب المتعلقة بأزمة الرأسمالية العالمية، واقتصاد السوق، والهندسات المالية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية على اقتصاديات الدول الفقيرة والأقل نموا.

وفي نهاية المطاف، “كان ما سوف يكون”. أفل نجم “السفير” بعد أن سطع ورافق حياتنا بحلوها ومرّها، لما يزيد عن أربعة عقود، فصدر العدد الأخير من “السفير” (4/1/2017) في ستين صفحة ليوثق مسيرة “السفير” الرائدة في الدفاع عن قضايا الناس في لبنان وفلسطين وفي كل الوطن العربي. وكان ذلك بمثابة رسالة الوداع الأخير: “لا “سفير” بعد اليوم مع قهوة الصباح”.

Exit mobile version