تبدو نقطة البداية، من على مسافة ربع قرن تقريباً، بعيدة، على حد نور العين، مضيئة ينثر شعاعها طريقاً إلى الغد.
ليس في الصحافة ماضٍ. إنها مهنة تقرأ ما سوف يكون. إنها لا تخبرك، خصوصاً مع تصاغر العالم وانحصار مراكز القرار في عاصمة أو اثنتين وبضعة رجال وامرأة.. ولكنها تحاول أو تطمح لأن تزوّدك بدليل لفهم ما هو آت ولما سوف يترتب عليه.
وحين نتصفّح ال7955 عدداً من »السفير« التي صدرت على امتداد السنوات الأربع والعشرين الماضية فإنما نقرأ، أيضاً، ما هو كائن والذي سيكون. المقدمات تلد النتائج، والباقي أما خطأ في التقدير أو تسرّع في الاستنتاج أو إسقاط للتمنيات على الوقائع الباردة. فلا حدث أو تطور يهبط، فجأة، من الفراغ، ولا نتيجة تجيء من خارج السياق فتذهب إلى العدم.
ولقد عملنا على مدار الساعة. عملنا في لحظات النهوض بعزم مستبشرين بإمكان التغيير، وعملنا في حالات الانهيار والتهاوي بإيمان يعصمنا من التردي في هوة اليأس أو الانجراف مع الغرائز الطائفية أو المذهبية. ظل الوطن في وجداننا، وبقيت الأمة وطموحاتها رايتنا. تبيّنا طريقنا إلى الصح بصعوبة أحياناً، وسقطنا في الخطأ مرات، وأخذتنا الانتفاضات الشعبية، في لبنان ومن حوله، إلى الحلم فخرجنا من الواقع وعليه، وشدتنا الانتكاسات والإخفاقات إلى مرارة الخيبة فكدنا نطفئ قناديلنا وننسحب الى عتمة الصمت.
كنا وما زلنا على إيماننا بالأمة، بقدراتها، بحيويتها وأهليتها للحياة. لا هي آتية من العدم، حضارياً، ولا هي ذاهبة إلى التيه وافتقاد الهوية. قد يضلها أولو الأمر أحياناً، وقد يضغط عليها دهر التخلف أحياناً، وقد يذل عزتها المهرولون إلى اتفاقات الاذعان أحياناً، ولكنها كما عوّدتنا تملك طاقة هائلة على التجدد وتبيّن طريقها إلى أهدافها الصحيحة.
لا مجال للفخر أو للتباهي، صمد الناس فصمدنا معهم وبهم، وانتصر لبنان على الحرب الأهلية فانتصرنا معه وبه. لم تذهب بعقولنا اغراءات الرهان القاتل على العدو، ولم يسكتنا القمع، وبقينا في صف الناس نستمد منهم القوة ثم نحاول تعزيز إيمانهم بأنفسهم وتأكيد قدرتهم على الانجاز. وكنا البشارة بالمقاومة ثم واكبناها واهتدينا بوهج دماء المجاهدين من أجل تحرير الأرض والإنسان.
للسلم الأهلي، للمجتمع المدني، للحرية، للديموقراطية، لكرامة الإنسان، لحقه في أرضه وفي غده الأفضل، لتحرّره من كل قيوده، سواء التي يفرضها »الخارج«، أو التي يبتدعها التحكّم في الداخل.
تبدلت منظومة القيم والمفاهيم خلال ربع القرن الأخير، وسادت أو ابتدعت مفاهيم جديدة، بعضها مستورد وبعضها منحول، فأخذت الناس إلى الهجانة والتغرّب، تارة باسم الثقافة، وطوراً باسم اندثار عصر العقائد والإيديولوجيات ونهاية التاريخ مع »انقراض« الشعوب والأمم وسيادة العولمة.
لكننا لا نجد عروبتنا مانعاً لتقدمنا، ولا نجد في العدالة الاجتماعية عقبة في طريق العصرنة، ولا نعتقد أن الهيمنة الإسرائيلية هي قدرنا وليس علينا إلا الاستسلام والانتماء إلى الشرق أوسطية بوصفها غد الرفاه والعزة هرباً من عار القومية العربية وهزائمها الكثيرة.
* * *
لم يعد لبنان هو ذاته، ولم يعد العرب هم أنفسهم بين 26 آذار 1974 و26 آذار 1998،
تبدّل العالم كله، وتبدّل كل شبر منه. اندثرت أمبراطوريات، واندحرت عقائد، سقطت ممالك ودول وانشطرت فتفكّكت معسكرات عالمية، وحلّ مفهوم جديد للوحدة يتجاوز الأمة إلى القارة تحت ضغط المصالح ولمواجهة المنافسة العاتية التي تفرضها الاحتكارات الجبارة والشركات متعددة الجنسية الخارقة للحدود والمصالح الوطنية.
تبدلت وسائل الاعلام جميعاً، أدوات وأساليب ووسائط انتشار. تم احتلال الفضاء وتمّ تطويعه واستخدامه لتعميم المعلومات والأخبار والدعايات والثقافات، من فوق رؤوس السلاطين والحكومات التي كانت تحجر على شعوبها في قوقعة البيانات المعلبة والأخبار المزورة أو المجتزأة أو المطموسة.
قفز التلفزيون ليحتل المساحة الأعظم انتشاراً كأداة إعلامية.
لكن الصحف استمرت ولسوف تستمر، ليس فقط بسبب التعوّد الذي يبلغ حد الإدمان، أو لأنها أكثر حرارة وعاطفية وإنسانية من سائر الوسائط، بل لأنها تنشئ حواراً مباشراً مع القارئ بما هو إنسان، مع عواطفه وتمنياته، مع مواقفه المبدئية وتطلعاته، مع شوقه إلى الحرية، إلى المعرفة، إلى كل ما يسهم في تكوين وجدانه أو في التعبير عنه.
كذلك فإن الصحف عرفت طريقها إلى التطور، تقنياً، وإلى توسيع دائرة خدماتها، مهنياً، فباتت أقرب ما تكون إلى المجلة، واحترمت الاختصاص، فزادت من عدد صفحاتها أو ملاحقها لتطلع قارئها على الجديد أو المفيد في مختلف المجالات.
و»السفير« مثل العديد من الصحف الحية، تحاول تطوير نفسها، وتحاول تعويض مَن خسرت من كتّابها وكادراتها الذين شرّدتهم الحرب الأهلية أو الضائقة الاقتصادية أو شحوب الحياة السياسية وتضاؤل دور الشارع وذبول حركة الصراع الديموقراطي في المجتمع.
إنها تعتمد التجديد بالإضافة لا بالحذف. وهي قد أضافت في الأسابيع القليلة، صفحة ثانية للرأي، كما أفردت مساحة استراحة جديدة في بابها إذ خصصت صفحة كاملة (صوت وصورة) لما يُقدَّم في أجهزة الاعلام المرئية والمسموعة، وعززت قطاع الخدمات عموماً، مع إعطاء الاهتمام الكافي للبريد كمساحة حوار ونقد ذاتي.
إن الصحافة في لبنان تحاول النهوض مجدداً، واستعادة مكانتها عربياً.
لقد كانت بين أوائل الضحايا الذين أسقطتهم القذائف العشوائية والرصاص الطائفي وحواجز القتل على الهوية،
كما أنها فقدت الكثير من بريقها حين طمست الغرائز الطائفية بعدما باتت »مؤسسات« الصراع الديموقراطي وقسمت الناس حول انماءاتهم الدينية وليس حول أفكارهم أو تياراتهم العقائدية.
وها هي الآن تتقدم لاستعادة دورها، إلى جانب رصيفاتها العربية التي قفزت إلى الأمام مفيدة من تجربة الصحافة في لبنان وكادراتها التي هجّرتها الحرب،
ولعل صمود الصحافة في لبنان كان يجسّد أو يرمز إلى صلابة المواطن فيه. لقد استمرت برغم المضايقات الأمنية والتضييق السياسي الطائفي، وتدني الموارد وزيادة النفقات والأعباء المادية، وتناقص الكادرات المهنية وانشغال العديد من الكتّاب الذين يملكون ما يقولونه فينفع الناس بهمومهم الذاتية.
كذلك فلقد تلقت الصحافة في لبنان ضربة أليمة بخروج »العرب« من لبنان عشية الاجتياح الإسرائيلي، ثم مع دهر الحروب اللبنانية الذي امتد لسنوات طويلة.
وعلينا الاعتراف بأن الجهود التي تُبذل لعودة بيروت منتدى فكرياً وثقافياً وشارعاً للنضال العربي وأرض صراع بين التيارات العقائدية المختلفة والفندق والمقهى والمشفى وصحيفة الصباح، لم تحقق النجاح المرجو حتى اليوم.
لكن الصحافة في لبنان التي كانت رائدة في إعادة وصل ما انقطع، تواصل دورها، وتعيد فتح الأبواب التي أغلقت، لأسباب شتى، وتنفض عنها وعن العرب ذكريات الأيام السوداء.
* * *
مع دخولها عامها الخامس والعشرين، لا تملك »السفير« ما تتعهّد به لقارئها غير مواصلة المسيرة منسجمة مع تاريخها ومع الشعارات التي ترفعها راية ومنارة هداية لها: صوت الذين لا صوت لهم، جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان.
سنكمل المسيرة، برغم الصعاب وأخطرها هذا الخواء السياسي الذي تعيشه دنيا العرب جميعاً ولبنان من ضمنها، والذي يفرض هذا المناخ المتوتر والمأزوم على المواطنين في مختلف أقطارهم وبكل تلاوينهم السياسية.
وسنستعيد أهلنا العرب، كتّاباً وقراءً، نخباً مثقفة ورجال أعمال ومساهمين في تقدم لبنان وتعزيز صموده.
سنتقدم على طريق التحوّل إلى مؤسسة متكاملة، وستكون ل»السفير« إصدارات تلبي اهتمامات القارئ واحتياجاته، العامة منها أو في مجالات التخصص،
وسينطلق إنتاج »المركز العربي للمعلومات« ليعزز المكتبة العربية، ومراكز الأبحاث والدراسات والمعاهد والجامعات، وليقدم للباحثين مادته الموثقة الغزيرة بأحدث ما توصلت إليه علوم المعلوماتية.
وسنحاول أن نقدم صحيفة قابلة لدخول القرن المقبل بما يليق بقارئها،
إننا على عتبة التأسيس الثاني ل»السفير«، وهذه المرة كمؤسسة عصرية مؤهلة لأن تعزز معارف جمهورها وقدرته على التحليل، ولان تغنيه بالمعلومات والتحليل والمناقشات وحركة الجدل الديموقراطي بين الأفكار والاتجاهات المتعارضة، كجهد إضافي من أجل ثقافة عربية ديموقراطية ومعاصرة.
إن طموحنا أعظم من إمكاناتنا بما لا يقاس،
لكن الرصيد الذي تكوّن عبر تاريخ علاقتنا الطويلة مع القارئ يمدنا بمزيد من الجرأة على الإقدام، خصوصاً وأننا نعرف أن من لا يطوِّر نفسه يسقط ويطويه النسيان.
مع دخولنا العام الخامس والعشرين نتعهّد بأن نقدم »السفير« لائقة بقارئها.. لائقة بالزمن الذي تصدر فيه، وتحاول أن تكون في حدود جمهورها أداة معرفة، تحترم العقل وحق الاختلاف.