إنهم وحيدون. وحيدون كسوانا. تركنا القضاء على رصيف بلا أفق. نمرّ أحياناً قرب الرابع من آب/أغسطس لأجل حزن مختنق. نبكي دموعاً جافة. نتأوه بصمت. حناجرنا لم تعد تستجيب لأصواتنا. أحزاننا تخلَّفت عنا. ثم نعود إلى وحدنا. نتطلع إلى الصور. أحياناً، لا نبكي. لا ندمع. الصورة والإطار يدمعان.
إننا وحدنا. لا صوت لانفجار. كأن لا شيء بلون أسود، يحضر بديلاً لنا. كأن الموت أو القتل ربما، قام بواجبه الذبائحي، وصرنا وثناً، يمر به العابرون، ويمضون إلى.. لا نعرف إلى أين.
الجرح يعرف أمكنته الحقيقية. الجراح اليوم وحيدة. الدموع والقهر يبيتان في الوجع والنكران. الذين قُتلوا، أو بالأحرى الذين قتلوهم/هن، لم يُغيّروا بعد أناقتهم. يقال إنهم معروفون. غلط. ثم غلط. المعروفون فقط هم القتلى والجرحى والمعطوبون. المعروفون هم الذين صاروا وحدنا.
كأن جريمة عظمى لم تحدث. غسلوا أيديهم. تابعوا واجبات العار، والجمل المقيّدة، والتناسي البناء. “لا تفتحوا الجراح”. هكذا يقولون. ما مضى مات ومضى معه الزمن، لستم وحدكم. شهداء الحروب اللبنانية على امتداد خمسة عشر عاماً، مجهولو الإقامة والهوية.
لبنان، هذا هو، المساءلة ممنوعة. الاتهام من الكبائر.
الـ… الـ… الـ… إلى آخره. إذاً، سدّوا بوزكم. المرفأ غرق ولم يعد موجوداً.
ليس لي سوى أن أهديكم حزني وصمتي. ليس عندي غير قاموس موسوعي من الشتائم والغضب والحقد. يراودني بيت شعر لائق بما حصل لكم منهم وبهم وضدكم. إنهم أقوياء وكثر وينتشرون.
أوجز عن شاعر غير مجهول:
“أولاد القحبة لا أستثني منكم أحداً”.
الرابع من آب/أغسطس مزار لأقلية تحتفظ بين جفونها بدمعة، وفي حناجرها غصة وصرخة مكبوتة. الرابع من آب/أغسطس يمر بسرعة، من دون أن يلتفت إليه، رئيس أو نائب أو وزير أو إلى آخر السلالة. الرابع من آب/أغسطس، تدفق على عتبات القضاء. أنا متأكد أنهم قضوا عليه قضاءً مبرحاً، و”عالمكشوف”.
كان متوقعاً، أن يقوموا بتمثيلية ما، ولو فاشلة، إكراماً لشهداء المرفأ. عبث. عبث. أنت مجنون؟ ربما: إنما، علينا أن نعمم لبنان “الحضارة” و”الأرز” و”الأبجدية”. وكل التفاهات المدعومة من جامعات ومعاهد والمحتضنة من إذاعات ومحطات، تبنت إفلاسها الأخلاقي، لتنضم إلى حيث هي راهناً. يا للعار.
لا نسأل عن مرجعيات متنوعة: سياسية، دينية، مالية، جامعية، نيابية، مؤسساتية. حتى يقال: “القضاء رجس من قبل الشيطان فاجتنبوه”.. ويقال، أن الشيطان يغضب من إلحاقه بهؤلاء، لأنه يقوم بوظيفته، ليس إلا.
ماذا بعد؟
يبدو أننا لا نتعلم كثيراً من واقعنا. الأكثرية الوازنة في لبنان، على دراية، بأن أفضل السياسات هي الصمت، واستبدال القضايا الموجعة والهامة والأساسية بانتخابات رئاسة الجمهورية.
هذه، ليست المرة الأولى. المعنيون يتقنون الصمت. يتولون إخفاء الجرائم (وهي كثيرة، كثيرة، كثيرة)، وهم مطمئنون إلى أن الأموات لا يعترضون. والشعب في لبنان، ليس ميتاً عن جد، هو ميت بإرادته. والبديل، هو الروح الطائفية. وهذه الروح الطائفية، متقنة، ومعتادة على التجويد.
لدينا عباقرة لا مثيل لهم في التاريخ. إنهم مرتكبون، أو شهود على الارتكاب، ولكنهم “منشغلون”، بذهاب وإياب الوسطاء.
وعليه، دلّونا على مؤسسة واحدة، لم تأكلها ديدان السياسة.
كل هذا مسموح ولكن:
ماذا بعد؟
أعود إلى ضحايا على قيد الحياة. هؤلاء الأحياء، آباء وأمهات وأخوة وأخوات ضحايا المرفأ، لأقول لهم: “عفا الظلم عما حدث في انفجار المرفأ وما بعده”.
لقد تم إبرام صفقة الصمت. “وقوموا لنهني”
***
لستم وحدكم ضحايا، قبلكم وبعدكم، حدث ما يلي:
اغتيل الرئيس رفيق الحريري. ثم. ضع الكلمات المناسبة، ثم توالت الاغتيالات. هل من الواجب تعداد الأسماء على أن يبقى الفاعل مجهولاً. اللائحة تطول وتطول. أتذكر التالية أسماؤهم، الذين انتهوا إلى النسيان وبلا محاكمة، أو بلا “وجع راس”.
من الشهداء القتلى والمغتالين: جبران تويني، سمير قصير، باسل فليحان، رينيه معوض، كمال جنبلاط، لقمان سليم، وسام الحسن، جورج حاوي، حسين مروه، وسام عيد، بيار الجميل، وليد عبود، أنطون غانم، فرنسوا الحاج، سهيل طويلة، حسن حمدان، صبحي الصالح، حسن خالد، رشيد كرامي، إلى آخره. اللائحة تطول.
ماذا نسمي بلداً، هذا تراثه؟
نتوقف عن إكمال المهمة، لأن الانزلاق إلى الشتائم والغضب يصير مشروعاً.
ماذا بعد؟
أين هو حاكم مصرف لبنان؟ يبدو أنه ما زال حاكماً. أين هم لصوص الإدارة و”قوادو” الزعبرة؟ أين هي ودائع اللبنانيين؟ (اخرس).
ثم، ما وظيفة رجال الدين؟ أظن أنكم تعرفون الجواب، ولكنكم تطنشون مثلي.
ثم أولاً: هل هذا هو لبنان؟
طبعاً. بكل جدارة لا أخلاقية.
الرابع من آب/أغسطس؟
“تعيشو وتاكلو غيرها”.