يصح القول فى البلاد العربية بمجملها أن الدساتير ما وضعت إلا لتخرق..
ندر وجود حاكم عربي يمارس سلطته وفق الدستور وضمن نطاقه.
كل رئيس ملك، سلطان، خليفة، مدة ولايته مفتوحة مدى عمره، إلا إذا وقع حادث جلل من خارج التوقع ففاجأ الأجهزة التى تراقب دوران الأرض حول الشمس وتحصي أنفاس الدواب والطيور والسيارات والطائرات وتفحص ألوان الزهور والمحابر وتشتبه بكل عين ولسان وقلم ولو مكسور.
ضرب عدد من الرؤساء العرب الرقم القياسي فى الجلوس فى مقعد السلطة المطلقة.
بعضهم شارك فى دفن بضعة ملوك من أسرة تحكم بالشعار الديني مثبتاً أنه أقوى منهم جميعاً… فهم قد ألغوا الشعب لكنه يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد للشعب، فإذا ما مات تيتم الشعب وانتفى الوطن وسقطت دولته.
حكم معمر القذافي، منفرداً، ليبيا لحوالى أربعين سنة، بلا تعب الانتخابات أو حتى الاستفتاءات.. وليرحل من لا يعجبه الحال أو فليدخل المعتقل حتى يقضي «العقيد» أمرا كان مفعولاً..
أما «الرقيب» علي عبدالله صالح الذى رقى نفسه إلى «عقيد» هو الآخر، فقد كان يتباهى بأنه قد حكم اليمن أكثر من الإمام أحمد حميد الدين… بديمقراطية الاستفتاء الذى يلغى فيه الصوت الذى يجرؤ على قول «لا».
وحكم حافظ الأسد سوريا لمدة ثلاثين سنة كرئيس شرعي، وبضع سنوات قبلها وباسم حزب البعث الاشتراكي كرئيس فعلي وغير متوج… ثم هيأ لخلافة نجله الأول، فلما قضى بحادث سير، جاء بنجله الثاني وهو فى السلطة – حتى الساعة ــ وبرغم ما أصاب «الدولة» (17 سنة.. وولايته الثالثة تنتهي بعد أربع سنوات).
.. ومن قبل حكم الحبيب بورقيبة لمدة 40 سنة، بوصفه بطل الاستقلال وباني الدولة، ولما خلعه ضابط تبين أن لا دولة ولا استقلال.. وها هي تونس تهتز وترتج بين تحالفات الأحزاب الآتية من الماضي والآخذة إليه من فوق رأس الشعب العظيم الذي افتتح كتاب الانتفاضة بحركة البوعزيزي المباركة.
ومن قبل حكم صدام حسين العراق، وباسم حزب البعث العربي الاشتراكي، لمدة 35 سنة متصلة نصفها بصفة «السيد التائب» ونصفها الآخر بصفته الدولة والوطن والشعب مجسدة جميعاً فى الحزب المختصر فى شخص «أبي عدي الرهيب».
***
أما الملوك والأمراء والشيوخ الذين جعلوا أنفسهم ملوكاً على عروش من ماء وهواء (كما البحرين) فيحكمون حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً.. إلا فى السعودية حيث يقدم النسل الغزير للوالد المؤسس البديل من بين جمهرة الأبناء (35) الذين مات بعضهم كمداً لأن العمر لم ينصفه فانقصف قبل أشقائه – القبيلة.
لا ضرورة طبعاً للإشارة إلى أن هذه الدول «لم تكن فى أي يوم دولا بالمعنى الصحيح لكلمة دولة»، وبنظام غير نظام الرجل الواحد تساعده مجموعة من الأجهزة الأمنية التي تسهر على حكمه بإلغاء الدولة والشعب.
كيف كان يمكن لمجموعة المشيخات المؤتلفة على خلاف، المختلفة على الأرض المن رمل وعلى الشاطئ المنداح على الخليج العربى بالقواعد البريطانية والنفوذ الإيراني أن تتحول إلى «دولة الإمارات العربية المتحدة»، لولا أن تلك كانت مصلحة عظمى غير عربية بالتأكيد… وإن كانت المصادفات قد سمحت بأن يكون الرئيس الأول لهذه الدولة، الشيخ زايد، بدوياً طيباً وحكيماً، «اشترى» الاتحاد بين المشيخات بالنفط الذى تدفق غزيراً، فأتاح له أن يسترضي الجميع فيرضيهم مادياً ومعنوياً وينفق عليهم ويسمح لكل منهم بهامش للحركة فى مشيخته بحيث يكسب ولاءه من دون قسر.
.. وصارت الإمارات دولة عظمى فى محيطها بذهبها وطيبة حاكمها وكرمه الذى امتد من المغرب الأقصى إلى مسقط رأس قبيلته فى اليمن.. وهكذا تجسد شوارع وجادات ومنجزات باسم الشيخ زايد فى مختلف إرجاء الوطن العربي، من بينها إسهامه الجاد فى بناء سد مأرب فى اليمن.
أما قطر فقد تفجرت عند شواطئها بحار الغاز وتدفقت ذهباً فتعاظمت المشيخة إلى دولة، وصار الشيخ أميراً فعزل الابن الأب الذى كان قد عزل أباه من قبل، ثم فرض على الابن أن «يعترف بإسرائيل»، وأن يقيم قاعدة عسكرية أمريكية فى العديد ثم أن يتنازل ــ طوعاً ــ إلى نجله الشاب الذى يتقدم – بثروته – ليغدو إمبراطوراً، يحكم ويتحكم ويتدخل حيث يحلو له فى البلاد العربية.. فيتواطأ مع الإخوان المسلمين على مصر، ويسلح العصابات المسلحة التى تقاتل النظام فى سوريا، ويتدخل فى العراق، ويحشر نفسه فى ليبيا الممزقة نتفاً، ويتآمر على الانتفاضة المجيدة فى تونس.. ثم يذهب إلى التحالف مع تركيا (وضمناً إسرائيل) ضد أهله العرب.
***
تصاغر الكبار من العرب وتعاظم الصغار، فاختلت الموازين جميعاً، وأزاغ الذهب الأبصار.. صارت دول التاريخ العربي رهينة أهل النفط الذين هم رهائن الأجنبي والإرادة الإسرائيلية، فتضاءل «الدور» وكادت «القضية» تندثر: اختفت فلسطين عن خريطة القرار العربي الذى صادره الأغنى وليس الأجدر والأخلص، وسحبت من التداول كلمات مثقلة بمعنى المستقبل مثل «وحدة المصير» و«التحرير»، فضلا عن «الاشتراكية»، وضمرت «العروبة» حتى كادت تندثر كهوية ورابطة جامعة حول أهداف الغد الأفضل فى ظلال الحرية والوحدة والتقدم.
تراجع دور مصر المنهكة بالحروب التى خاضتها التزاماً بموجبات دورها القومي وواجبها الوطني، فتجاوزها الصغار بذريعة خطيئة السادات التى ارتكبوا أفظع منها بكثير، إذ صالحوا «العدو» الذى لم يحاربوه وخاصموا وضغطوا على «الكبار» من أهلهم وحاولوا أن يفرضوا عليهم سياسات لا تتناسب مع مصالحهم، فساعدوا الاحتلال على العراق بذريعة صدام حسين، ثم تخلوا عنه للاحتلال الأمريكى ومخاطر الفتنة التى نفخوا فيها وغذوها لتنتشر فى المنطقة جميعها مقسمةً العرب المسلمين إلى سنة وشيعة مقتتلين وأقليات مسيحية وعرقية خائفة على وجودها، بما يفتح الباب وسيعاً أمام الأجنبي والعدو الإسرائيلي.
بالمقابل حاولوا استرهان سوريا التي كان نظامها يسعى إلى حماية نفسه بموقفه، فأغروه باعتماد «الانفتاح» الذى دمر اقتصاد الدولة وفتح الأبواب أمام أموال الخليج والغزو التجاري والصناعي التركي، وأضعف علاقة السلطة بجمهورها، حتى وقع الانفجار الشعبي الذى تحول إلى حرب على سوريا وفيها، لا تزال مستمرة منذ خمس سنوات ثقيلة بالدم المهدور والخراب وتدمير معالم العمران وتشريد الملايين فى عواصف الثلج ومخيمات اللجوء لمن نجا من الغرق فى بحر الظلمات..
*****
وصل حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة فى سوريا، عشية وفاة القائد العربي العظيم جمال عبدالناصر (أواسط تشرين الثاني ــ نوفمبر 1970). كان انقلابه العسكري هو «الأسهل» فى تاريخ الانقلابات التى تكررت مراراً فى سوريا، لأنه كان قد أعد له عدته سياسياً وعسكرياً على مهل وعبر سنوات من وجوده فى وزارة الدفاع وقيادة الطيران.. فضلاً عن موقع متقدم فى قيادة حزب البعث التي كان «العسكر» يهيمنون عليها.
وبالتأكيد فإن حافظ الأسد كان شخصية متميزة بالذكاء الحاد، بل الدهاء، والنفس الطويل، والتخطيط الهادئ، وحسن اختيار معاونيه ومراعاة الحساسيات المذهبية والجهوية بعد طمسها بالشعار القومي، وهكذا حصن موقعه بمجموعة من الشخصيات والكفاءات المقبولة، معززاً أجهزة الاستخبارات التي تعددت حتى ضاع الناس بينها.. فضلاً عن أنه عزز الجيش بمجاميع مختارة تمتاز بالولاء لتشكل نسبة وازنة فيه غيرت فى القيادة وأعداد المنضوين تحت لوائه.
بالمقابل عزز حافظ الأسد رصيده الشخصي بمشاركة سوريا بدور فعال فى حرب تشرين (أكتوبر) 1973 ضد العدو الإسرائيلي.. وقد زاده خروج السادات من تلك الحرب، بغير تنسيق معه، وهو الشريك فيها، مكانةً ونفوذاً على المستوى العربى.
على أن إغراء السلطة جعل حافظ الأسد يستمر فى الرئاسة لمدة ثلاثين سنة متواصلة، برغم أنه في سنواته الأخيرة فقد الكثير من حضوره المتميز بالذكاء بل الدهاء وطول الأناة.. ثم أنه ارتكب خطيئة حصر السلطة في العائلة، فأعد ابنه الأكبر باسل «خليفة» فلما قضى في حادث سير، استدعى ابنه الثانى بشار الذي كان يكمل دراسته فى طب العيون ليعده على عجل لوراثته فى موقع رئاسة الدولة، كل الدولة.
ومع التقدير لكفاءة الأب وحنكته ودهائه المعروف فقد كان طبيعياً أن تختل الموازين في حكم يرفع راية الحزب (البعث العربي الاشتراكي) في حين يحكم «الرئيس» بمساعدة بعض المعاونين المخلصين، خصوصاً وأن الابن ليس بكفاءة الأب، ثم أن الظروف مختلفة كلياً.. بل أن العالم كله قد تغير، فسقطت الأيديولوجيا وهزمت الاشتراكية التي التهمتها سلطة الحزب الواحد والبيروقراطية التي لا علاقة لها بالمبادئ.
وصحيح أن النظام السورى قد نجح في مراحل عديدة، ومن خارج المتوقع، فأنجز نهضة داخلية، ولكن انزلاقه إلى الانفتاح بعد دهر من الانغلاق ومحاولة بناء الدولة بالقدرات الذاتية، قد ضرب الاقتصاد الوطني واجتاحه الخارج التركي على حساب الصناعة الداخلية، ثم اختلف مع الدول العربية الغنية فتواطأت عليه وتدخلت لتحيل المعارضة الطبيعية إلى عصابات مسلحة تقاتل التفرد بالسلطة، تحت شعار الحزب الواحد، الذى انقرض منذ زمن طويل ولم يثبت حضوره في مواجهة الفتنة التى ضربت سوريا جميعاً فكادت تدمرها وطناً ودولةً وشعباً طالما أكد صلابة وحدته الوطنية عبر التاريخ..
*****
في الحرب على سوريا وعليها لعبت دول النفط، إلى جانب تركيا، دوراً تخريبياً عظيماً.. كما أن العدو الإسرائيلي لم يغب عن الميدان، فكان طيرانه الحربي يشارك فى «نصرة» المقاتلين ضد النظام كلما وجدهم فى مأزق.
وهكذا يعمل عرب الأمس خناجرهم في جسد الغد العربي فيسخرون ثرواتهم لاغتيال الإنسان العربي وحقوقه في أرضه ومستقبله الأفضل.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق