طلال سلمان

الذكاء والسياسة

سيطرت علينا في الأيام الماضية حتى هيمنت طاقة هائلة. وجدت نفسي في بدايتها منساقا نحو وضع تأمل. أتأمل في آثار خلفتها في نفسي قراءة مقال عرض عددا من الكتب تدور جميعها حول ليوناردو دافنشي. وقع هذا التأمل قبل أن أتخلص تماما من أصداء زوبعة صوتية حول سيرة أخرى ولكن ذاتية ومصرية. دافنشي لم يكتب بنفسه سيرة ذاتية. كتبها مئات المؤلفين والمؤرخين وعباقرة الفن والهندسة وعلوم الطيران وعلوم أخرى. كنت قد صادفت قبل قراءة عرض الكتب المتعددة عن حياة دافنشي وذكائه الخارق وعبقرتيه التي تكاد تسمو إلى مصاف الأساطير والقصص الديني، حوارات دائرة في المواقع الثقافية الأمريكية والأوروبية حول حق المواطن في أن توفر له الدولة ما يثبت أن ذكاءه أعلى من ذكاء كبار المسؤولين، وبالمقابل حق الرئيس أو الملك في أن يحتفظ لنفسه بمكانة المواطن الأكثر ذكاء في المجتمع.

***

أحببت سيرة ليوناردو دافنشي. أحببتها منذ أن عرفت أن ليوناردو دافنشي كان يحتفظ بنوتة صغيرة يسجل فيها كل ما يعن له خلال اليوم من أسئلة، كل أنواع الأسئلة. كان يسأل ومنذ طفولته عن السبب في زرقة السماء، وفي اختلاف درجة ضغط الهواء فوق جناح الطائر عن درجة الضغط تحت الجناح. سأل: لماذا يتعب الإنسان؟ لماذا نعطس ونتثاءب ونشعر بالجوع والندم والعطش والشهوة؟ سأل عن كل شيء وحصل على إجابات. كان مخلوقا ذكيا، بل فائق الذكاء. أجاد في كل ما فعل وكان أداؤه في كل ما اخترع ابتداء من فنون الحرب وصنع السلاح وانتهاء بلوحتي الموناليزا والعشاء الأخير، أعمال بقيت بعد ستة قرون شاهدة على سيرته. ولم يكتب عن نفسه.

***

لا أشك للحظة واحدة في أن ليوناردو كان يسعى ليتبوأ مكانة عالية جدا في قائمة الأذكياء. بذل جهدا خارقا ليتفوق على معاصريه ويقنع الأمراء والبابوات بذكائه الحاد. استفاد في صعوده إلى القمة من الظروف. لو كان ليوناردو سلك في التعليم مسالك أبناء طبقته لما تميز واشتهر. كان طفلا غير شرعي يكتب بشماله، وكان كثير الشرود والتأمل. «لا شرعيته» حرمته من أن يرث مهنة أبيه موثقا عموميا ومنعته من تعلم اللاتينية لغة القصور والملوك والدبلوماسية، فكسبته البشرية والحضارة الإنسانية.

فكرت طويلا في اقتناع أحد المؤلفين بأن وجود ليوناردو خارج سلطة الأهل ربما ساهم في إطلاق خياله. أبدع لأنه كان حرا ولأنه أدرك مبكرا أن الذكاء يقرر مكانة الفرد في مجتمع النخبة. يهمني بشكل خاص هذا الأمر. نرى أناسا يسعون سعيا حثيثا منذ سنوات شبابهم للاقتراب من جماعة النخبة أملا في الاندماج فيها. يستخدمون وسائل شتى ويلجأون لممارسة محرمات ليحصلوا على مكانة متقدمة بين الأذكياء، وهم ليسوا منهم. هذا السباق نحو مواقع الذكاء دفع أفلاطون إلى اعتبار الذكاء من الطيبات النادرة. يعتقد فلاسفة أن من الأسئلة الأهم ليس ما يفعله الأذكياء من النخب الحاكمة في غير الأذكياء بل ما يفعله غير الأذكياء أو الأقل ذكاء في الأذكياء أو من أجلهم. هؤلاء الأقل ذكاء يتوقع الفلاسفة منهم أن يعرضوا أنفسهم لخدمة الأذكياء «عبيدا وخدما ومخصيين ومحترفي قتل وحرب».

***

يؤمن سير فرانسيس جالتون بأن القدرة العقلية وراثية، يعني يمكن زيادتها بالتلاقح المخطط والعلمي. في رأيه، وربما في رأي آخرين لا يعلنون، أنه لا داعي للأقل ذكاء أن ينجبوا. هكذا يتكثف في عواصم غربية ويتوسع الحديث عن ضرورة عقد سباقات ذكاء. لا يعرف كثيرون أن عمليات عقم تجري في أوروبا وأمريكا للحد من أعداد الأغبياء والأقل ذكاء في المجتمعات الغربية. تردد أن نحو عشرين ألفا في كاليفورنيا أجريت لهم هذه الجراحة. صرنا أيضا نتفاخر بعدد الأذكياء في فصول مدرسية لم تجر لهم مسابقات ذكاء على أسس علمية. نزعم أنهم أذكياء. يقول الرئيس ترامب أنه جمع في حكومته «أعلى درجات الذكاء» لم تجتمع في أي حكومة أمريكية سابقة.

***

سابقة في تاريخ الديموقراطية الغرببة وفضيحة مكتملة الأركان. لم يتمكن وزير الخارجية الأمريكية التحكم في أعصابه فخرجت من فمه كلمة أخرق، صفة لرئيس الدولة التي يشرف بأن يكون وزير خارجيتها في ظرف حساس. لم يغضب الرئيس في تلك اللحظة. بعد أيام قليلة أعلن أنه على استعداد ليدخل مسابقة ذكاء ليتأكد الشعب أن رئيسه ليس أقل ذكاء من وزير خارجيته. دافنشي تفادى خلال علاقاته العديدة أن يقارن ذكاءه بذكاء الأمير أو البابا. كان يحفظ جيدا درس أفلاطون وتلميذه سقراط، «الذكاء للملك الفيلسوف وليس لأى إنسان عادي».

***

تاريخ الدبلوماسية لا يخلو من مراحل مثيرة في العلاقة بين الرئيس ــ الملك ووزير خارجيته. تتضاعف الإثارة عندما يكون الوزير أذكى وأقدر أو هكذا يخيل إلى أحدهما. يحضرني على الفور العلاقة بين رتشارد نيكسون وهنري كيسنجر. لم يوجد في الجانب الصيني أو المصري من تسرب إليه أى درجة من الشك حول تدني القدرات العقلية للرئيس الأمريكى مقارنة بالذكاء المبهر لوزير خارجيته. أذكر بهذه المناسبة وزراء خارجية تركوا علامات على الدبلوماسية العالمية لن تمحى. لا أحد بين شباب اليوم يذكر أمجاد الرئيس ترومان ولكن كلهم يذكرون مشروع مارشال. كثيرون من شباب الدبلوماسية المصرية لا يعرفون على وجه الدقة موقف محمد إبراهيم كامل من مفاوضات كامب ديفيد وتمرده على الرئيس السادات أو موقف إسماعيل فهمي الذي سمع وهو في تونس أن رئيس الدولة قرر زيارة القدس قبل استشارة وزير خارجيته. أعرف أيضا من موقع قريب أن السادات اختلف مع الدكتور مراد غالب والسيد محمود رياض. كلهم فيما أعلم اعتمد على تقدير خاص لذكائه وليس على قوته. صدامات الذكاء في ساحات الحكم تختار غالبا الرئيس ــ الملك ووزراء خارجيته، ففي هذا الحيز الضيق من علاقات السلطة يخرج أحيانا وزير الخارجية شاهرا ذكاءه ليحصل على مقعد دائم في صفوف الخالدين.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version