طلال سلمان

الدكتور عصام الزعيم

قبل عشر سنوات وثلاثة أشهر، رحل عن دنيانا الدكتور عصام الزعيم المثقف الكبير والخبير الدولي الممتاز في الادارة وشؤون التخطيط والتنمية، والذي شغل الوزارة في واحدة من الحكومات السورية لفترة، فلما نجح فيها أقيل، ثم أُرسل إلى وزارة أخرى لا تليق به، ومع ذلك تحمل التبديل مكرهاً… لكنه وجد نفسه مستقيلاً، بعد حين.

هنا كلمة عنه في ذكراه:

عصام الزعيم: مقاتل بلا سلاح لقضايا منسية!
لم يكن خبر الوفاة إلا إعلاناً متأخراً عن اغتيال أحلام جيل بكامله وربما جيلين، حتى لو كان الراحل رجلاً فرداً بتجربة عريضة اسمه: عصام الزعيم، أما ألقابه العلمية فكثيرة وإن ظل الأردأ فيها اللقب السياسي (معالي الوزير) الذي استدرج به ليخدم وطنه، فخسرناه بغير ان يربح الوطن أو دولته قيد الإنشاء منذ دهور.
لقد شاء الحظ أن ينشأ عصام الزعيم في مناخ النهوض القومي والتقدمي، الذي كان يشق للمنطقة العربية طريقاً الى غد أفضل… ولعله قد تميز عن جيله بأنه قد عاد من دراسته في اوروبا ليس بشهادات عليا في التخطيط وفي إدارة المشروعات الاقتصادية فقط، بل بخلاصة بعض التجارب الاوروبية في حل مشكلات القطاع العام، وأبرزها الترهل الذي يخفض إنتاجيته ويحوله الى مستودع للكفاءات تحشر فيه عبثاً فتعطل ويحرم الوطن من قدراتها.
وانتبه عصام الزعيم الى ان مقاتلاً عربياً، ممتازاً كان قد أنشأ في الفترة ذاتها، أي أواسط الستينيات أول مجلة عربية متخصصة بشؤون النفط والغاز.
كان شرف الريادة معقوداً لرجل صاحب رؤية، يجمع في عقله بين العلم والخبرة والايمان بحقوق شعبه في ثروته الوطنية، فيسعى لتحقيق الشعار الحلم: نفط العرب للعرب.
كان اسم ذلك الرائد: الدكتور عبد الله الطريقي، وقد جاء الى بيروت بعد إفشال مشروع ثورة سياسية اقتصادية  اجتماعية في السعودية.
لم يكن عبد الله الطريقي وحيداً في هذا التحرك، بل لقد شاركت فيه نخب تلاقت في افيائها قيادات نقابية (لا سيما ممن يعملون في حقول النفط الذي كانت تحتكر انتاجه وتسويقه شركة ارامكو الاميركية)، وبعض المثقفين الطليعيين، كما حظيت بدعم من بعض الأمراء الأحرار الذين كانوا قد تأثروا بأفكار جمال عبد الناصر، حتى ان بعضهم قرر فنفذ وترك بلاده الغنية وألقاب الامارة ملتحقاً بمن كان يرى فيه قائد المسيرة العربية نحو التحرر والتقدم.
وبطبيعة الحال فقد هبّت شركات النفط بنفوذها السياسي القوي وبوهج ذهبها ورشاها السخية، تستنفر مخاوف الأسرة الحاكمة والمستفيدين من التخلف ومن استمرار الهيمنة الاجنبية، لإفشال حركة الأمراء الأحرار ولضرب التوجه نحو تأميم النفط…
…وكان ان جاء عبد الله الطريقي بتجربته الغنية (عملياً وسياسياً فضلاً عن علمه) الى بيروت لينشئ اول مجلة عربية تعالج شؤون النفط بمنطق اقتصادي سياسي قومي لا تنقصه الدقة العلمية.
وخلال فترة وجيزة صارت “مجلة النفط والغاز نفط العرب للعرب” مرجعاً علمياً، وصار مكتبها منتدى يتلاقى فيه أهل العلم والخبرة من الدارسين العرب والكتّاب وأهل الاختصاص ممن يتعاملون مع النفط كثروة وطنية يمكن ان تفتح باب المستقبل الأفضل، بالتنمية بوتيرة عالية، اجتماعياً وعلمياً وثقافياً، لمجموع الأمة العربية.
…وكان بين اوائل من شارك عبد الله الطريقي حلمه وعمله خبير ودارس من سوريا هو نقولا سركيس.
وربما من هذا الباب دخل عصام الزعيم العائد من اوروبا بكثير من العلم وقليل من الخبرة الى المجلة الرائدة… وعبرها تعرّف الى مؤسسات سيعمل معها مستقبلاً وبينها شركة النفط الجزائرية سوناتراك.
قبل ذلك، وعندما أعلن النظام تبنيه الاشتراكية عقيدة، اعتبر عصام الزعيم وهو من خان طبقته ليكون اشتراكيا ان موعده مع خدمة وطنه وقضية شعبه قد حان. لكنه سرعان ما اكتشف ان النظام هو من يعينه اشتراكيا وليس ايمانه بمبادئ الماركسية وتطبيقاتها العملية.
وقرر عصام الزعيم ان يغيب لينتفع بعلمه طالما ان النظام لا يريد ان يفيد لا من وطنيته ولا من صدق عقيدته الاشتراكية!
ولان المؤسسات الدولية تبحث عن الكفاءات وتستقطبها فقد اختطف عصام الزعيم الى بعضها، فعمل لفترة بين فيينا وباريس وجنيف، ولكن قلبه كان دائماً في دمشق.

*****

دمشق؟! بل لعلها حلب حيث نشأ وترعرع في ذلك العالم الهائل الغنى، حيث تتمازج حضارات متعددة لتعطي هذه المدينة طابعاً قل نظيره في العالم: فهي عربية إسلامية تركية ارمنية ارثوذكسية سريانية، ولها علاقة خاصة، تجارية واقتصادية قديمة مع ألمانيا، التي ربطها بها قطار الشرق منذ عشرينيات القرن العشرين.
ثم انها عراقية بقدر ما هي سورية، وأممية بقدر ما هي قلعة عربية لا فرق ان يكون بانيها الكردي صلاح الدين الايوبي! او العربي سيف الدولة الحمداني.
حلب! لكم أحبها عصام الزعيم، ولكم تمنى ان يعطيها ما يضيف إليها…

*****

في العام ألفين، ارتأى بعض المجتهدين من أهل النظام ان يستدعوا عصام الزعيم الذي كان قد انزوى بخبراته وتجربته وعلمه الغزير في أميركا اللاتينية، يعلم في بعض جامعاتها ويكتب ويحاضر او يشارك في بعض الندوات العلمية.. ويتجرع اخبار وطنه وأزماته الاقتصادية والاجتماعية تحت ضغط الحصار والبيروقراطية.
.. وعاد عصام الزعيم متردداً. ثم سمع من التطمينات ما شجعه، فقبل بان يكون وزيراً للتخطيط. وبعد سنتين من الضياع وتجاهل دراساته ومقترحاته خلع من منصبه النظري، وكلف بمنصب عملي. وهناك كان الفخ ينتظره فانتهى متهما في وطنيته اضافة الى ذمته المالية.
ولولا تدخل مراجع عليا لم تأخذ بالدسائس والاحقاد الصغيرة لاقتيد، هذا الذي شرده ايمانه بأفكاره وحبه لوطنه في أربع رياح الأرض، الى السجن!

*****

قبل ثلاث سنوات، أسعدني حظي بأن امضيت ثلاثة أيام مع هذا الصديق في رحلة الى الرقّة كان لا بد ان تكون محطتها الختامية الممتعة في حلب.
في مدينة الثورة التي انشأها السد في الجزيرة على نهر الفرات، كانت لنا ندوة، حضورها اهم من موضوعها، فقد كان يتقدمهم الأديب الكبير الذي فقدناه الدكتور عبد السلام العجيلي.
أما في مدينة الرقّة فقد أمضينا نهاراً في قلب عبد السلام العجيلي، وذاكرته التي لا تغفل شيئاً، وكتاباته التي تتجاوز الرواية الى المشاهدات وإلى الطب وبعض السياسة من دون ان تغفل الشعر ولو كمحاولة.
كان عصام الزعيم الذي تحرر قبل حين من منصب الوزارة، يتجرع شعوره بالظلم.

*****

من باب “آن عليك ان تحفظ لصديقك صورته الابهى في قلبك وفي ذاكرتك وفي حديثك”، لا بأس من استعادة شيء من وقائع تلك الاجازة القصيرة في حلب، التي نظمتها سيدة الشهباء وذاكرتها وحافظة وقائعها ومواقعها: أميّة الزعيم!
القلعة اولاً، ثم الغداء الشهي، ثم الحمّام  السلطاني  الذي تحفظه الصيانة الدائمة من عاديات الزمان، وبعد جولة في المدينة القديمة بمبانيها الجميلة والتي لا يشي خارجها بجماليات داخلها، بل ان ضرورات التمويه لرد عيون الحساد والعزال وأصحاب السلطان كانت تفرض ان يبقى الخارج  عادي المنظر، وأن يكون الباب اقرب الى حجم النافذة في جدار مسدود… فإذا ولجت انفتح أمامك عالم من الجمال: حديقة بأشجار النارنج وورود وفسقية يحيطها مجلس، تتوسط الدارة التي تتوزع منازل لأصحابها، بينما المطابخ والمجالس والحوش الخارجي ملكية عامة.
قالت أميّة الزعيم التي ترى في حلب درّة الشرق، في الفن والثقافة والصناعة وحب الحياة: ستسهرون مع الشيخ حسن الحفار…
وتولى إدارة العمليات وإخراج واحدة من امتع سهرات العمر الحاج أحمد رمضان الذي قدم بظرفه وروحه وأنسه نموذجاً رائعاً لأهل حلب، أما إدارته لحلقة الرقص الحلبي (الرجالي) فلسوف تبقى في الذاكرة مع صورة عصام الزعيم وقد استعاد ابتسامته، ونسي امراضه والتجربة المرّة في السلطة، وانخرط مع الجماعة في التأوّه، وطلب الإعادة، والهتاف: الله يا شيخ حسن، الله!

*****

.. وهو قد ظل يعطي حتى النفس الأخير، وإلا فما الذي أخذه إلى دير الزور ليحاضر عن التخطيط والنهوض الاقتصادي بينما أمراضه تنهكه… وأخطرها ما يتصل بالسياسة وينبع بها.
رحم الله عصام الزعيم… الفتى الذي أضعناه بينما نحن في أمس الحاجة إلى أمثاله داخل سوريا وخارجها على امتداد حرف الضاد!
لولا شيء من ورع التحفظ الناتج عن التسليم بأن الموت حق، وبأن أحداً لا يعرف بأي أرض يموت، وبأن لكل إنسان أجلاً لا يمكن تقديمه أو تأخيره لحظة واحدة… لولا هذا كله لاعتبر كثيرون أن عصام الزعيم قد قضى اغتيالاً، ولفكروا برفع دعوى لمحاسبة من يمكن اتهامهم بتدبير جريمة الاغتيال هذه!
ومع أن الدكتور عصام الزعيم كان معتّل الجسم، ويشكو من أكثر من مرض، لكنه كان قوياً بإرادته، جباراً بروحه، مقاوماً من طراز فريد للخطأ والعلة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الصحة العامة.. والخاصة.
ومؤكد أن هذا الأكاديمي المتميز والخبير الاقتصادي المحترم، كان بوسعه أن يعطي بلاده من علمه الكثير الكثير، لولا أن البيروقراطية قتالة، ولولا أن الجهلة والفاسدين هم بالضرورة أعداء للمخلصين والشرفاء لا سيما إذا ما تمت توليتهم شؤون البلاد والعباد.
عصام الزعيم، الأستاذ الجامعي، الباحث، الدارس، الخبير والمستشار الاقتصادي والفني للعديد من المنظمات الدولية والجامعات العربية والأجنبية، هو بحق ابن حلب البار: يعتز بانتمائه إلى الشهباء، يعرفها جميعاً، أما أحياؤها القديمة فيعرفها بيتاً بيتاً، ويعرف فنونها وفنانيها المبدعين، في الصناعة والبناء كما في الموسيقى والغناء، ولعل أحداً لا يعرف أكثر منه إلا ابنة عمه حاملة مفاتيح حلب أمية الزعيم.

لقد كان إنساناً عظيماً، وبالتأكيد فإن سوريا قد خسرت بغيابه اسماً علماً.

 

Exit mobile version