أراقب بكل الحرص والاهتمام النقاش الدائر في مجتمع الدبلوماسيين، المتقاعدين منهم والعاملين، حول أهمية الاتفاق أو التوافق على ما تغير في سياسات الدول الكبرى وفي توازنات القوة الإقليمية وبالتالي حول ضرورة “تحديث” الدبلوماسية المصرية استعدادا للتعامل بكفاءة ودراية مع هذه التغيرات.
- • •
أتفهم المنطق المستند إلى جدوى الاعتماد على خبرة الدبلوماسية المصرية في مختلف مراحلها. أتفهم أيضا حقيقة أن الدبلوماسية في بعض معانيها وأنشطتها صارت من اختصاص أجهزة متعددة بحكم التداخل الكثيف بين قضايا الأمن وحقوق الإنسان والأقليات والسياسة الداخلية ومصالح قومية متجددة ومستجدة وطبيعة نظم الحكم. الاهتمام بكل هذه القضايا وغيرها مسه التغيير بدرجة أو أخرى، وبعضها صعدت مع الزمن مرتبة في أولويات الدبلوماسية بشكل عام، ودبلوماسيتنا على وجه الخصوص.
لا جدال في أن الدبلوماسية المصرية كانت من بين دبلوماسيات قليلة في العالم النامي انضمت مبكرا إلى النظام الدبلوماسي العالمي، وبالأصح النظام الأوروبي. بل وربما استفادت بشكل غير منتظم من الطبيعة القانونية المستقلة نسبيا عن الإمبراطورية العثمانية خلال القرن التاسع عشر، ويذهب البعض إلى أبعد في القدم. يذهب في الماضي إلى أنشطة دبلوماسية عديدة مارستها حكومات مصر في عصور المماليك. تشهد عليها وعلى عصور أسبق معاهدات واتفاقيات عديدة. يهمنا على كل حال المرحلة الأحدث، وأقصد المرحلة التي تبدأ في عقد العشرينيات من القرن العشرين، وتبقى المراحل الأقدم المعين الرمزي المقيم في عقل وقلب الإنسان المصري المشتغل أو المنشغل بهذه المهنة.
- • •
كثيرة هي الدروس المستفادة من تجارب الدبلوماسية المصرية في مراحلها العديدة. هناك مثلا ما أميل إلى تسميته بأساليب التنقل المرن بين الأضداد. مثال ذلك التنقل بين المراحل الهجومية في الدبلوماسية ومراحلها الدفاعية والجمع بين الأسلوبين أحيانا في مرحلة أو حالة بعينها، بين أساليب الصخب والسكون وبين الحركة والكمون وبين دبلوماسية الذئاب ودبلوماسية الحملان وبين الانتقال السلس من أسلوب القيادة المستترة إلى أسلوب القيادة العلنية في تنفيذ سياسة أو أخرى من سياسات الدولة الخارجية.
ومن الخبرات المكتنزة في عقل الدبلوماسي المصري المعاصر خبرة الدبلوماسية المصرية في أساليب العمل في ظل نظم دولية متنوعة. جربت وبدرجات مختلفة من النجاح التعامل في ظل قواعد نظام دولي متعدد الأقطاب خلال المرحلة السابقة على نشوب الحرب العالمية الثانية، وفي ظل نظام دولي ثنائي القطبية وهو النظام اللاحق لانتصار الحلفاء في تلك الحرب، ثم في ظل انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم في أعقاب انتصارها في الحرب الباردة وتأكيد فرض إرادتها.
- • •
من المثير بالتأكيد انتقال الدبلوماسية المصرية بمرونة واستجابة من أسلوب إلى آخر، بل نجازف بالقول أنه يحسب لها، أو عليها، تحقيق سبق هام على عديد الدبلوماسيات الإقليمية في هذا المضمار. شمل السبق قضايا الموقف من القضية الفلسطينية وعقد صلح مع إسرائيل وتبرير الاشتراك في حرب ضد العراق وعدم الاعتراض على حرب ثانية ضده. شهدت الفترة على كل حال مرحلة انكماش في مختلف أنشطة الدبلوماسية المصرية. انسحبنا قليلا أو كثيرا من العمل في إفريقيا منذ أن حل الكمون بالسياسة الخارجية المصرية عموما ودبلوماسيتها خصوصا. خسرت مصر وقتها أرصدة هامة وتبذل حاليا جهودا صعبة التحمل لاستعادة بعض ما فقدته من مكانة في هذه القارة وموقعنا الاستراتيجي فيها ومن الوزن الموروث عن فترة تألقت فيها الدبلوماسية المصرية في إفريقيا. تألقت وهي تطارد استعمارا شرسا بوجهيه البريطاني والفرنسي وترفض في الوقت نفسه أن تكون ذراعا للشيوعية ورغبات موسكو للتوسع في القارة.
- • •
للدبلوماسية المصرية أساليبها المستترة، وهي أساليب صارت تستخدمها دبلوماسيات أخرى. أعني بطبيعة الحال الدور المتعاظم التي صارت تلعبه أجهزة الاستخبارات في مجال العمل الدبلوماسي. كنت شاهدا على المرحلة الأولى من بدء تعاظم هذا الدور. وقتها كنت أحد من تنبأوا لمستقبل هذا الدور بالتوسع. كنا في سفارة مصر بروما نلجأ لممثلي هذه الأجهزة لتسهيل اتصالات بالقاهرة وحل مشكلات عجز مالي. أعني أيضا من الأساليب ما يمكن تسميته بدبلوماسية المبعوثين الشخصيين. صار هذا النوع يتصدر في بعض الدول الكبرى والمنظمات الدولية الأساليب الأخرى وإن لم يعد ناجعا مهنيا ووظيفيا في مواقع غير قليلة لكثرة استخدامه، أو ربما لضعف تجربة وخبرة المبعوث ولكون بعض الخيارات اختيرت لأداء وظائف غير دبلوماسية وإنما لخدمة مصالح شخصية أو لصالح شركات وأغراض أخرى. أذكر بكثير من التقدير السيد حسن صبري الخولي الذي أدى خدمات كبيرة للدبلوماسية المصرية في دول الخليج كمبعوث شخصي للرئاسة المصرية، وخدمات، ليست أقل أهمية، للدبلوماسية الجماعية العربية كمبعوث شخصي للأمانة العامة لجامعة الدول العربية في لبنان وسوريا واليمن في عهد محمود رياض، أذكر أيضا وبكل التقدير المهام العديدة التي نفذها الأخضر إبراهيمي مبعوثا للأمم المتحدة والجامعة العربية وآخرون عديدون.
- • •
العالم بتكوينه الراهن يبدو غريبا وصعب الفهم أمام علماء سياسة ومتخصصين في العلاقات الدولية، هكذا يبدو أيضا أمام التقليديين والمحدثين من الدبلوماسيين في كل أو معظم دول العالم. الكل معذور. فعلى صعيد العالم الخارجي يحتار المرء في التنبؤ بمستقبل هيكل القمة الدولية، بين أن ينتهي السباق الراهن سميناه تنافسا أو سميناه حربا باردة أشد هولا من حرب باردة عشناها كغيرنا من دبلوماسيات العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، بين أن ينتهي باستمرار نظام الهيمنة أحادي القطبية أم بميلاد نظام أقل تعسفا في شكل تعددية قطبية ثنائية أو ثلاثية.
كذلك يتبدى لنا النظام الإقليمي الذي نعيش في ظله مقبلا على حالة مختلفة عن حالة عشناها منذ نشأة النظام الإقليمي العربي. نراه الآن يسعى في “غير نظام” باحثا عن مستقر، يبقى عربيا أم يتطور ليصير هامشا عربيا لنظام شرق أوسطي في مرحلة تأتي بعد أخرى كان الشرق الأوسط فيها هامشا مختلط الهويات لنظام إقليمي عربي. يكون معلوما في الحالتين أن الدبلوماسيات القائمة يتعين عليها أن تنفذ بنودا ومهام كثيرة الاختلاف وربما باستخدام أساليب أيضا مختلفة عما تعودت عليه.
- • •
يكفي أن نتصور حجم الجهد الذي يجب الاستعداد له من أجل إيجاد صيغة مقبولة لمهام وأهداف ووظائف وقواعد عمل نظام إقليمي مبتكر يضم شعوبا من هويات متباينة وفي الغالب متصادمة تاريخيا وثقافيا وسياسيا وغير متجانسة اقتصاديا. أقرب تجربة، وإن ليست أقل صعوبة، كانت في الاستعداد لإنشاء الاتحاد الأوروبي بديلا كانت نواته ما عرف بتجمع دول الحديد والصلب.
أسهل لنا، وإن بدا للبعض أصعب، أن نحتفظ بنظامنا العربي فكرة وعقيدة وآمالا وطموحا. واقعه الراهن متعثر وأسباب التعثر كثيرة وواضحة، وعلى كل حال ليست ضمن موضوعات هذا المقال وأولها: ولعله الأهم تجاوز صعوبات الانتقال داخل النظام ذاته، وثانيها: الترتيب لمواجهة متطلبات العمل والقيادة والإدارة في النظام العربي تحت عباءته الجديدة. لا أستهين بالهدفين ولا بالمشاق المتوقعة والمنصوبة عن عمد ولا بالمشاق الطارئة على الطريق الموصل لكل منهما.
- • •
نسأل أنفسنا كدبلوماسيين تقاعدوا حديثا أو من فترة غير قصيرة، وكمراقبين وإعلاميين متخصصين في هذا الفرع من فروع الدبلوماسية الشاملة، نسأل هل في دبلوماسيتنا المصرية على امتداد عصور نهضتها وعصور تعثرها ما يساعد في عملية خلق نظام إقليمي جديد. أو وهو الأهم بل والمرجو في نية كاتب هذه السطور، أقصد عملية تطوير أو إعادة تكوين النظام الإقليمي العربي عن طريق التوصل إلى توافق عام على الاستفادة من كافة خبرات الدول المنضوية تحت لواء هذا النظام، ومن بينها خلاصات خبرة الدبلوماسية المصرية في العمل الوطني والإقليمي.
أستطيع هنا، وشاكرا فضل من أنست لهم من خيرة الدبلوماسيين المصريين، أن أضع على رأس قائمة قضايا الاهتمامات العاجلة في المرحلة القادمة للنظام العربي وهي المرحلة التي يجب أن تتضافر من أجل نجاحها الخبرات والتجارب التي مارستها مختلف الدبلوماسيات العربية. من هذه الموضوعات موضوع التمسك بسياسة عدم الانحياز وبخاصة في المرحلة الدقيقة الراهنة، منها ثانيا: موضوع الأمن الإقليمي، ومنها ثالثا: موضوع إنشاء هيئة داخل إطار الجامعة العربية للدبلوماسيين والخبراء المتخصصين في تسوية النزاعات، ومنها رابعا: موضوع التكامل الاقتصادي، ومنها خامسا: هيئة استشارية مختصة بشئون دول الجوار الإقليمية والعلاقات معها.
يبقى في النهاية أن أشهد وأعترف بأنني أجد آمالي مع آمال الأمة العربية ما تزال معلقة على واجب إحياء النظام الإقليمي العربي وتطوير مؤسساته وتحقيق أهدافه. هذا الواجب يعتمد الوفاء به على جهود هائلة يجب أن يجري على الفور تسخيرها استعدادا لبناء جبهة متناسقة تضم الدبلوماسية المصرية، بعد تحديث آلياتها وتطوير إمكاناتها، إلى الدبلوماسيات العربية الأخرى، جبهة واعية لضخامة التحولات الجارية على مستوى النظام الدولي قيادة وهياكل وعلى مستوى النظام الإقليمي قيادة وهياكل.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق