طلال سلمان

الخوف على فلسطين… نتيجة الخوف من فلسطين!

لكأنه قدر مكتوب على الشعب الفلسطيني أن تعيش أجياله حرباً مفتوحة من اجل حقهم في وطنهم حراً مستقلاً، وان يعيشوا فيه بكرامة كما سائر شعوب الارض…

مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتقاسم بريطانيا وفرنسا اقطار المشرق العربي بعد الحاق الهزيمة بتركيا، المتحالفة مع المانيا.

..ومع استذكار البريطانيين وعد بلفور (الذي اعطاه من لا يملك لمن لا يستحق) بأن تقوم دولة لليهود على ارض فلسطين، فتح الغرب ـ والشرق ـ ابواب الهجرة امام يهودهم ليصيروا “مواطنين” في ما سيكون، مستقبلا، “دولة اسرائيل”.

ولقد خاض الفلسطينيون انتفاضات شعبية عارمة بلغت ذروتها مع “ثورة 1936” ضد الاحتلال البريطاني كما ضد الاستيطان اليهودي في ارضهم.. وهناك روايات بوقائع دامغة عن اندفاع بعض اثرياء “العرب” من خارج فلسطين إلى بيع املاكهم فيها الى شركات او مؤسسات يهودية بتسميات “بريئة” لحساب اليهود، ضمن خطة تبرر ـ لاحقا ـ الادعاء بان “ابناء صهيون” انما يستعيدون “ارضهم التاريخية”!

حاول الفلسطينيون مواجهة هذا المخطط بتحريم بيع الارض، ثم باشروا مواجهة المستوطنين اليهود (ومعهم الجنود البريطانيين) بالسلاح القليل الذي يملكونه، او الذي استطاعوا شراءه، بأسعار مضاعفة، من بعض “اهلهم” العرب، لكن التفوق الاسرائيلي، في ظل الرعاية البريطانية والدعم الدولي، كان حاسماً.. وهكذا اقيمت “دولة اسرائيل” بالقوة على ارض فلسطين ـ خلافا لكل دول الارض ـ بقرار دولي كان اول من صوت إلى جانبه الاتحاد السوفياتي وتبعته الولايات المتحدة الاميركية ثم سائر الدول!

هذا لا ينفي أن بعض الدول العربية قد دفعت بأعداد من جنودها إلى الحرب، وأولهم مصر ـ ومعها سوريا ـ وان مئات او ربما آلافا من المتطوعين العرب قد قصدوا إلى فلسطين فقاتلوا تحت قيادة فوزي القاوقجي، لكن المعركة كانت محسومة النتائج سلفاً، خصوصا وان جيشاً كاملاً، بدباباته وطائراته وجنوده المدربين في جيوش “الحلفاء” خلال الحرب العالمية الثانية قد وصل جاهزاً للقتال تحت قيادة عسكرية ـ سياسية تمثلت بعصابتي شتيرن والهاغاناه في الداخل الفلسطيني..

كانت الدول العربية، بمجملها، حديثة الولادة، وهي لما تتخلص بعد من القوات الاجنبية (البريطانيون) في بعض القواعد عند قناة السويس وفي القاهرة وانحاء أخرى من مصر.. وكذلك في الاردن ـ الذي اقتطعت بريطانيا “امارته” من ارض سوريا لتكون دولة للأمير عبدالله بن الحسين، الهاشمي، ونجل مطلق الرصاصة الأولى في ما سمي “الثورة العربية العظمى”، الشريف حسين، اما الفرنسيون فكانوا بالكاد قد تركوا لبنان وسوريا، بعد اعادة صياغة كيانيهما “بالفرز والضم” وهما بلا جيش، تقريباً.

باختصار، كانت القوى العسكرية العربية أضعف، بما لا يقاس، من أن تستطيع مواجهة الكيان الاسرائيلي القوي والمعزز بقوى دعم دولي غير محدود، سياسيا وعسكريا.

هكذا اقيمت اسرائيل بالقوة على بعض ارض فلسطين، في حين منحت الضفة الغربية لنهر الاردن للأمير عبد الله فصيِّر ملكاً، بينما قائد جيشه جنرال بريطاني هو غلوب الذي انعم عليه بلقب باشا، والذي اشتهر في فلسطين وخارجها بـ”ابي حنيك” لان حنكه كان مشوهاً.

بعد استقطابها ليهود الدول العربية، او معظمهم (في مصر، ولبنان وسوريا كما العراق) باتت بجيشها المسلح حتى أخمص اقدام جنوده اقوى من مجموع الدول العربية التي شاركت في قتالها، رمزياً..

*****

عاشت اسرائيل سنواتها الاولى في حالة استنفار عسكري دائم (ما زال مستمراً حتى الآن).. وتكررت غاراتها واعتداءاتها على “حدودها ” مع الدول العربية من حولها، بل وفي داخلها احيانا (كما حصل ضد مصر، اكثر من مرة)، وجندت بعض “اليهود العرب” للتجسس على دولهم الاصلية ـ اهلهم.

اما العرب فقد عاشوا في ظل الهزيمة، يعانون من العجز عن “مواجهة العالم في دولة العدو”… في حين أن هذا “العدو” لم يتركهم، ففي خريف العام 1956 شاركت اسرائيل مع بريطانيا وفرنسا في عدوان ثلاثي على مصر… ولقد صمدت مصر جمال عبد الناصر في مواجهة هذا العدوان تحت شعار “ح نقاتل.. حتى آخر طلقة رصاص وآخر رجل”. والتف العرب جميعاً من حول مصر، اقله بعواطفهم، أن لم يكن بكامل امكاناتهم وطاقاتهم (وكانت، على أي حال، محدودة).

خرجت مصر منتصرة على العدوان الثلاثي، وجديرة أكثر مما كانت في أي يوم، بقيادة الامة العربية جميعاً… وكانت فلسطين بين العناوين المضمرة لهذا النصر العظيم..

تضامن العرب، بمجملهم، مع مصر، وارتفعت روحهم المعنوية، وبلغت حماستهم للموقف الموحد الذروة.. وكان بين النتائج اعلان قيام “دولة الوحدة” ـ الأولى في التاريخ العربي الحديث ـ بين مصر وسوريا في “الجمهورية العربية المتحدة”.. وكان واضحاً أن تحرير فلسطين هو بين الاهداف الأعظم لهذه الدولة التي “تصون ولا تهدد وتجمع ولا تبدد”.

على أن هذه الوحدة المرتجلة والتي كانت تتمحور سياسيا حول قيادة جمال عبد الناصر بأمل تحقيق احلام الاجيال من العرب، كانت اضعف من أن تصمد في وجه اعدائها الذين اجتمع في “حلفهم” العديد من “العرب” مع دول الغرب والشرق، تتقدمهم بطبيعة الحال، دولة العدو الاسرائيلي، التي رأت في هذه الوحدة ـ اذا ما نجحت ـ اعظم خطر مصيري على وجودها..

وهكذا فان فلسطين، القضية المقدسة وهدف تحريرها واقامة “دولتها” العتيدة، كانت الضحية الاولى لانهيار حلم الوحدة، وانفضاض العرب عنها، وتفرقهم ايدي سبأ.

وهكذا زاد “الخوف” من فلسطين بدلاً من تعاظم الصمود تحت شعار تحريرها.

ولسوف يرحل جمال عبد الناصر في 28 ايلول 1970 وهو يكافح لإيقاف المذبحة في الاردن، بين الجيش الاردني وقوات المنظمات الفلسطينية التي تعددت فصائلها داخل “منظمة التحرير” التي تولت قيادتها منظمة فتح بزعامة ياسر عرفات.

.. ولسوف تخرج القوات الفلسطينية المسلحة من عمان والمناطق الأخرى إلى جرش، بناء لقرار القمة الطارئة في القاهرة التي اوقفت الحرب الاردنية ـ الفلسطينية، تمهيداً لان تكمل فصائلها “الزحف” في اتجاه لبنان، متخذة من اتفاق القاهرة التي كان عقد برعاية جمال عبد الناصر بين القيادة الفلسطينية والجيش اللبناني، اساساً لعلاقة “تحالف” او “تسهيل” لانطلاق مقاتلي المقاومة من جنوب لبنان لمواجهة العدو الإسرائيلي..

على أن المقاومة الفلسطينية بفصائلها العديدة، كانت متعددة الولاء.. فبينها من يموله عراق صدام حسين، وبينها من ترعاه سوريا، وبينها من يسلحه معمر القذافي.. بينما ياسر عرفات، الذي غدا مرجعية سياسية مهمة في بيروت ينافس سوريا حافظ الاسد (واللبنانيين) على حكم لبنان.. ودائماً بذريعة تحرير فلسطين.

يتح للمقاومة الفلسطينية ان تشارك في حرب 1973 التي لم تسعفها الظروف في تحقيق الهدف المرجو منها، عربياً بشكل عام، وفلسطينياً بشكل خاص بل هي انتهت بخلافات عربية عميقة، خصوصاً بعدما اندفع الرئيس المصري انور السادات إلى زيارة الكيان الاسرائيلي، والوقوف امام الكنيست خطيباً بدعوى انه جاء يعرض السلام ويطلبه للتعايش مع الكيان الاسرائيلي كأمر واقع.

…ولسوف تفقد منظمة التحرير مصادر قوتها المعنوية والعسكرية والمالية تدريجياً.. ويندفع ياسر عرفات إلى استنقاذ ما يمكن استنقاذه، مما ادى به بعد موافقة العرب على حضور مؤتمر مدريد للسلام، إلى عقد اتفاق اوسلو مع العدو الاسرائيلي الذي اعترف ـ أخيراً ـ بالطرف الفلسطيني “بعودة” ما تبقى من منظمة التحرير ومقاتليها المشردين في اربع جهات الوطن العربي “بالعودة” إلى بعض البعض من الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون سلاحهم الثقيل تحت اشرافه على مدار الساعة.

وبهذا امكن للنظام العربي أن يتنصل من اعباء “القضية المقدسة” فلسطين، معتبراً انه قد “ادى قسطه للعلى”.. وليذهب الفلسطينيون بعد ذلك إلى قدرهم الذي لا مفر!

…وها هي المتاهة الفلسطينية تكاد تبتلع العرب جميعا، فتفرقهم اشتاتاً ومعسكرات مقتتلة او متواجهة، وتتسارع خطوات الدول الغنية في اتجاه الاعتراف بإسرائيل، التي اعلنت نفسها، مؤخراً، دولة يهود العالم، واخذت تسعى “لتطهير” ارضها من غير اليهود.

والمأساة لما تكتمل فصولاً بعد.. فبعد الخوف على فلسطين ها نحن نعيش الخوف من فلسطين فنبيعها بثلاثين من الفضة (يدفعها الاثرياء من غير جهد، من العرب العاربة)..

“.. ويا فلسطين جينالك.. جينا وجينا جينالك

جينا لك لنشيل احمالك..”

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version