(1)
لماذا تبدو صورة العلاقات العربية ـ العربية، مشوبة بضباب كثيف، ومحاطة بأجواء من الشكوك والرّيب، دون أن نرى في الأفق بادرة لما يمكن وصفه بالخيط الذي يجمع حبات العقد المنفرط، أو أن ينبعث من كوة النفق المظلم، ضوء يبدد إظلامه..؟
لعلّ سؤالي يتمدّد لتتناسل من بين حروفه، أسئلة شتى، تزيد من حيرتنا، وتنهش في ذاكرة عربية، أوجدها التاريخ، عليلة معطوبة، منذ توافقات “سايكس ـ بيكو” عام 1917م. ليسوا بشراً بل هم نفر لعين من الجن من دشنوا جغرافيا غاية في الالتباس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفصّلوا دولاً قطرية بمباضع المصالح الغربية وسكاكينها العشوائية الظالمة. تلك أيام “السطوة” الأوروبية التي بلغت منتهى أوجها عبر حربين عالميتين، حصدتا الملايين، وشكلتا “منصّة” لاقتسام مناطق النفوذ، ولم تكن أمريكا حاضرة، بداية الأمر لكنها استقوت بعد ذلك. دفعت شعوب الشرق الأوسط ثمناً باهظا، وكأنها هي من أشعلت أوار الحربين. في ختام الحرب العالمية الأولى، بصموا على وعد “بلفور”، وفي ختام الحرب العالمية الثانية، أنشأ الغرب وطنا لليهود على حساب عرب فلسطين..
(2)
ولأنّ الأيام دوّل، فهاهيَ الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تستفرد بالعالم كله، بعد أن وضعت حربٌ ثالثة، هي “الحرب الباردة” أوزارها، وتضعضع “الدبُّ الرّوسي” إزاء غطرسة “كاوبوي أمريكي” جديد، يصرخ في براريه، بملء الفم: “أمريكا أولاً”.. ثم يجيل بصره إلى حيث هبطت الكتب السماوية الثلاثة، يستقصي من سيساعده هناك، لتأليف منهج جديد لعلم الجغرافيا، وليكتب تاريخا جديداً يناسب مصالحه ومصالح تابعيه..
دعني أبدأ من حدثٍ قد يراه البعض غاية في التواضع، فيما نحن بصدد وقائع أكبر أثراً، تتصارع فيها أيادي كبارٍ أشداء، حول قصعة النفوذ الضيقة، يتكالبون تدافعا نحو الموارد والثروات في العالم الثالث، المحيط بأولئك الكبار، فيما تتناقص الموارد الطبيعية، وتتهدّد البيئة والمناخ والأوزون وجوده فيما تكبر مخاطر الفناء من طاغية يافع في أطراف قارة آسيا، إسمه “كيم جونغ أوون”..
(3)
أريد أن أبدأ باستقالة السيد سعد الحريري من رئاسة وزراء لبنان، والتي أعلنها من خارج عاصمة بلاده، في سابقة لم نعهدها في استقالات رؤساء الدول. من المعلوم أن الدستور اللبناني، وبعد طول تداول تاريخي، توافقت فيه الطوائف من سنة وشيعة ومسيحيين، لمنظومة حكم يمنح رئاسة الجمهورية للطوائف المسيحية ورئاسة الوزراء للطائفة السنية، ورئاسة البرلمان للطائفة الشيعية. أيّ اختلال في هذا التوازن العبقريّ، كفيلٌ بإحداثِ هزّات قد تعرض لبنان ـ ذلك البلد الصغير في الجغرافيا والعميق في التاريخ ـ لاقتتال ولصراعات قد تطال أخضره ويابسه. حرب لبنان الأهلية بين عام 1975 و1990، كلفت تلك البلاد دماراً، أشبه بالدمار الشامل في البشر والحرث والموارد. أول من أعاد البناء في لبنان وضمّد جراحه هو ـ ويا للمفارقة ـ رفيق الحريري، والد رئيس الوزراء الذي دفعوه قسراً لاستقالة مهينة. لكانهم أرادوا ترك لبنان على شفا جُرفٍ هار، كما جاء وصف الانهيار في الآية الكريمة..
لا ينكر مراقب حصيف، ذلك التوازن العبقري في لبنان، وإن بنيّ على معادلة طوائفية هشّة، فقد حفظ لهذا البلد وحدته، وكفل لشعبه الحريات واحترام التعدّد في العقائد واللغات والثقافات. ذلك ما ميّزه عن بقية شعوب البلدان العربية، التي طحنتها أنظمة، وقفتْ لعقودٍ طويلة في الضفّة الأخرى، تتنكّر للحريات وللديمقراطية ولكرامة الفرد، بدمٍ بارد. عصر ملوك ورؤساء الطوائف هذا، أعطانا “جامعة عربية” لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، ولربما حسِبَ من أراد إبقائها على هذا النحو المُزري، أنّ ربّ العالمين لم يخلق لتلك الشعوب العربية التعيسة، عيوناً وأنوفاً وألسنة. عبقرية التوازن في لبنان، لم تصنعها أيدٍ أجنبية، كما لم تتفتق عن ذهنية من خارجها. كلا. لم يكن من تأثير على لبنان وهو يصوغ دستوره في سنوات القرن العشرين الوسيطة، لا من شيعة ايران، ولا من سنة السعودية، وهما بلدان يعتمدهما العالم رأسي الطائفتين المتنافرتين في الشرق الأوسط، المضطرب أصلاً بفعل فاعل. لبنان قد يكون الساحة التي اختارها القطبان المسلمان للمنازلة المهلكة، يديرها الطامعون من وراء حجاب. مِن غير المسموح للبنان، ذلك التسامح العقائدي والثقافي الذي نعم به لحين. من غير المسموح للبنان، أن يقف نشازاً مضيئاً في فسيفساء الواقع العربي المزري.
(4)
اللحن الذي يصدر من “مايسترو” الفرقة الموسيقية التي تقود طائفة السنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هو لحن تنقصه النوتة الموسيقية المرتبة. الضجيج الذي يصدر يطنّ الآذان، ولم تسبقه محاولات لضبط الالات الوترية والايقاعية، فوقع الإضطراب لا الإطراب. ثمّة أناس من ثاقبي البصر والبصيرة، رأوا أن الموسيقار الذي يدير هذا اللحن بحذقٍ أصيل وفكرٍ مرقوم واستراتيجية ناجزة، كبيرٌ قابع وراء المحيطات، يمسك بمشجب الإرهاب الدولى، فزّاعة يخيف بها صغاره.
البوق الصغير الذي يعزف عليه سعد الحريري في لبنانه، يصدر صوتاً نشازاً، بل مشروخاً، يُحدث ضوضاءاً أكبر من حجمه. قيل للعازف أن يتخلى عن بوقه، وأن يبقى متفرّجاً عاطلاً، فالسيمفونية إن بدأت فستطحن الأعداء، “رعاة الإرهاب الدولي”، طحناً لا يبقي ولا يذر..
قال المعلق الأمريكي الكبير “فريدمان”: إن ذلك الفتى مندفع اندفاعاً مُضطّرداً بلا كوابح، لن تفلح معه العجلة ولا استباق القدر. يسعى الفتى لتوطيد أقدامه في رمال السياسة المخادعة، بذريعة الحرب على الوالغين في الفساد. لكن من ينصح بأنّ الحكمة تقتضي لتوطيد الأقدام، التؤدة لا الاستعجال، التروّي لا الاندفاع..
(5)
ترى هل “للطفل المعجزة” ـ كما سمّته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، تهكماً واستصغاراً ـ تلك القدرات، فيقود أوروكسترا تعزف سيمفونية لا يملك مفاتيحها..؟ إن المغنّي الحقيقي الذي سيصدح باللحن الشجيّ، كائنٌ مختلقٌ يقبع في “القدس المهوّدة”، صنع بداياته قبل مائة عام، مأفون بريطانيّ إسمه “أرثر جيمس بلفور”، أبلغ “روتشيلد” كبير اليهود، تأييد بلاده لإنشاء وطنٍ قوميّ ليهود التيهِ التلموديّ في فلسطين. هكذا صُنعت أكبر مظلمة بشرية في التاريخ الحديث، وكتب لها أن تتغذّى من ضعف العرب…
لكننا الآن في عصر العولمة، وزمن تداخل الوقائع، واشتباك الأدوار في عصب السياسة. ها نحن نرى “كاوبوي” واشنطن يصرخ: “أمريكا أولا”، لكنه يختار حلبة أركانها في جنوب لبنان أولاً، ليصارع “تهران” التي في مزاعمه تؤيد وتشيع “الإرهاب الدولي”، وتهدد السلم والأمن الدوليين بمساعيها لامتلاك السلاح النووي..
(6)
من خطرات ذهن “الكاوبوي” في حكمته الخرقاء، إن أردتَ أن تحرّر الجولان، فعليك أن تسقط دمشق أولاً، ثم لا يلبث أن يرتدّ “راعي البقر” المتأنق هذا على عُقبيه. إنه يخطّط لكي يفرش بساطاً أحمر اللون، يمتد من “تل أبيب” إلى العواصم العربية المروّضة والمتشاكسة. يقول “الكاوبوي الفطِن”: دعنا من عمر بن الخطاب وخرافة قبّة الصخرة وغناء فيروز. إن أردتَ أن تهزم الطائفة الشيعية في إيران، عليك أن تقيل رئيس وزراء من الطائفة السنية في لبنان. ثمّة من يلتمسون رضاك أيها “الكاوبوي” فيقومون بالواجب كاملاً، نيابة عنك، يجلدون لك حزب الله في لبنان، ويهلكون لك المسلمين في إيران. إن الطامع لا ينفك يشقّ صفوفكم ويضعفها، وأنتم لا تبصرون..
لو أردتَ إجابة على تساؤلي أول حديثي، فإنّ الإجابة حاضرة: هو العجز العربي المخجل سبب كلّ هزيمة وكلّ إذلال..
كاتب وسفير سوداني سابق