طلال سلمان

الحلف الغربي في مهب الريح

لا مبالغة متعمدة في صياغة عنوان هذا المقال فالعلامات كافة تشير إلى أن معسكر الغرب يمر بمرحلة لعلها الأسوأ منذ إعلان نهاية الحرب الباردة. أشهد بأنني مع زملاء من الشبان المتابعين تطور العلاقات الدولية لاحقنا بالدقة الواجبة خلال الأسبوع الفائت تصريحات وخطب وسلوكيات ممثلي الدول في مؤتمرين انعقد أحدهما في وارسو عاصمة بولندا والثاني في برلين العاصمة الألمانية. قبلهما، أي قبل انعقاد هذين المؤتمرين كنا قد انتهينا من ملاحقة مواقف الدول من أزمة فنزويلا وتحليلها. لم يفتنا، وسط هذا النشاط الدولي، أن نراقب السلوك العربي وأظن أننا وفقنا إلى خلاصة أن لا جديد يرجى من وراء هذه الملاحقة من أجل فهم مختلف لرؤية السياسيين العرب لأنفسهم أو لغيرهم. لا شئ تغير على هذا الصعيد العربي ولا شئ جاهز فيه ليتغير، بينما كل شيء يتغير في العالم الخارجي.


انعقد مؤتمر وارسو لغرض في نفوس السيد كوشنر صهر الرئيس ترامب ومساعديه وهما مبعوث الولايات المتحدة للشرق الأوسط والسفير الأمريكي لدى إسرائيل. شجعهم الرئيس ترامب وكلف كلا من السيد بنس نائب الرئيس والسيد بومبيو وزير الخارجية مرافقة صهره وتشجيعه ومباركة خطواته حتى يتحقق غرضه. لم يكن الغرض مختلفا جدا عن الغرض الذي تحمس له السيد نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، كلاهما أراد لم الشمل العربي الإسرائيلي أمام كاميرات الصحافة العالمية وبحضور مندوبي حوالي ستين دولة ذهبوا إلى بولندا وليس بينهم كثيرون متأكدين من ضرورة وجودهم في وارسو، أو أن حضورهم هذا المؤتمر الوهمي سوف يفيد كثيرا أو قليلا. لذلك لم تكلف دول عديدة ومنها دول أوروبا أحدا من كبار مسؤوليها متاعب رحلة هي في جوهرها رحلة علاقات عامة لا أكثر ولا أقل.

المهم والمثير للسخرية في آن واحد هو أن المؤتمر رغم الثقة المتناهية في عدم جدواه جاءت نهايته تؤكد خيبة أمل مضاعفة لأصحابه. من ناحية خرجت الصور تكشف كره المندوبين العرب وسخطهم، أنا شخصيا لم أطلع على صورة واحدة لابتسامة عربية في هذا المؤتمر. معذورون ربما وقد حشروا، كلهم أو أغلبهم، حشرا. من ناحية ثانية، علقت شخصية غربية كبيرة على المؤتمر بعد انتهائه بأنه جسد فشلا لن يكون أقل فعلا وأثرا من فشل مؤتمر عقد قبل حوالي ربع قرن في مدريد للغرض نفسه، أي مؤتمر علاقات عامة يذهب إليه العرب لالتقاط الصور مع زعماء إسرائيل. من ناحية ثالثة، استغلت إسرائيل المؤتمر ووجودها في وارسو لتلقي بالزيت فوق حملة إسرائيلية شنتها قبل شهور تحت عنوان “تفشي العداء ضد السامية”، والمقصود ضد إسرائيل. تنبأت إسرائيل بأن العداء ضد السامية سوف يصعد من جديد. المتهمون كثر، الروس متهمون والمجريون والبلغار والإيطاليون والقوميون الأمريكيون والفرنسيون والإنجليز والألمان حتى الفلسطينيون والعرب والإيرانيون والبولنديون. هؤلاء الأخيرون لأنهم رفضوا الاعتراف بالاتهام الإسرائيلي لهم بالتواطؤ مع النازيين لتنفيذ عمليات إبادة في بولندا أثناء الحرب، وأضافوا إلى رفضهم غضبا، الغضب الذي يستحقه نكران الجميل لشعب استضاف مؤتمرا لممثلي ستين دولة خدمة لإسرائيل فيكون جزاؤه اتهامه بالعداء ضد السامية. هكذا جرت أصداء مؤتمر وارسو.


أظن أن لا دولة في أوروبا يمكن أن يوصف عامها الماضي بأنه كان أفضل أعوامها. أذهب خطوة إلى أبعد فأزعم أن لا دولة في أوروبا تعيش ظروفا جيدة في هذه الأعوام الأخيرة. أنظر إلى إنجلترا فأصدق ما يقوله الإنجليز عن بلادهم، وأقصد المملكة المتحدة، إنها تعيش أسوأ سنوات حياتها منذ انتهت الحرب العالمية الثانية. هذا المجتمع لم ينقسم كما هو منقسم الآن. بالأمس فقط وبينما كنت أكتب هذه السطور تناهى إلى علمي نبأ انقسام في حزب العمال وسط اتهامات عديدة لزعامته ومنها اتهامها بالعداء ضد اليهود، مجتمع هزته إلى الأعماق مغامرة البريكسيت التي دخلها وهو غير مستعد لسداد تكلفتها وتحمل أعبائها.

بعد الحديث عن بريطانيا أتساءل إن كان يمكن أن تكون فرنسا بخير وشوارعها يحتلها المتظاهرون منذ أكثر من أربعين يوما. هل لباريس اليوم المصداقية التي كانت لها يوم تقاسمت مع ألمانيا مهام قيادة القارة وتحملت أحيانا منفردة مسؤولية توبيخ الرئيس ترامب وإرشاده بالنعومة المناسبة نحو “الطريق السوي”. أهذه السيدة في برلين التي ترأس حكومة ألمانيا هي نفسها التي عهدناها تفاخر وتعاند وتقود أقوى اقتصاد في أوروبا وتفاوض روسيا من مركز قوة وتصلح منفردة أو مع حكومة شباب في أثينا اقتصاد اليونان المنهار أو تقف ضد كل أوروبا وشعبها لتفتح حدود ألمانيا في وجه مليون مهاجر؟. أنا لم أتصور أن يوما قريبا سيأتي أكون فيه شاهدا على عودة إلى علاقة مأزومة بين ألمانيا وفرنسا أو بين إيطاليا وفرنسا. ألمانيا وفرنسا تعودان إلى سيرة الألزاس واللورين ويختلفان على جدوى التعددية في أوروبا ودمج روسيا فيها وعلى إنشاء الجيش الأوروبي الموحد. أما إيطاليا وفرنسا فمختلفتان على مسألة استعمارية. مسائل من هذا القبيل الخلاف حولها سبق أن أشعل نيران حربين عالميتين. تساءلت أكثر من مرة خلال الأسبوع الأخير عما إذا كان يمكن أن تكون الوحدة الأوروبية عادت وهما أو أسطورة كما يبدو الحال في الوحدة العربية؟


استمعنا قبل الانعقاد الرسمي لمؤتمر ميونيخ إلى محاضرة المؤرخ تيموثي جارتون آش ومحاضرات وتصريحات أخرى ألقاها مسؤولون سابقون تولوا مناصب هامة في مؤسسات الأمن الغربي. اطلعنا أيضا على التقرير السنوي الذي تعده إدارة مؤتمر ميونيخ للأمن عن حال الأمن الدولي ليسبق صدوره انعقاد المؤتمر. تداولنا فور اطلاعنا على جملة في التقرير نصها كالآتي “العالم في أزمة، والولايات المتحدة الأمريكية لا تفعل شيئا سوى أنها تجعل الأمور تزداد سوءا”.

فورا قفزنا إلى المغزى وراء هذه العبارة. إن هذا المؤتمر سوف يعري الحلف الغربي من كل أوراق التوت التي حاول أن يستر بها نفسه طيلة العامين الماضيين. فهمنا من العبارة ولم نخطئ الفهم، فهمنا أن ألمانيا لن تقبل أن يعامل المسؤولون الأمريكيون السياسيين الأوروبيين معاملة السيد للتابع، وأنها سوف ترد على نائب الرئيس ترامب السيد بنس الذي وجه من منصة مؤتمر وارسو للشرق الأوسط وهو في الطريق إلى ميونيخ تعليمات لحلفاء أمريكا الأوروبيين وقواعد سلوك.

كانت العبارة بالنسبة لنا علامة أولى على المدى الذي انحدرت إليه العلاقات بين دول الغرب، وبخاصة بين أمريكا من ناحية والدول الأوروبية من ناحية أخرى، وعلامة في الوقت نفسه على الحال المتدهورة للأمن والسلام العالميين. تلى انتباهنا إلى هذه العلامة علامات أخرى تكشفت من خلال مداخلات المشاركين في المؤتمر من رؤساء دول وحكومات ووزراء دفاع وخبراء من كافة التخصصات. سجلنا ما تكشف لنا من علامات أخرى وهي كثيرة.

العلامة الثانية، وهي علامة فارقة بالمقارنة بحال الأمن الدولي في المؤتمر السابق، وتتعلق بالسباق نحو التسلح بين الصين وروسيا وأمريكا وقد صار رهيبا. ترامب يقرر منفردا دون استشارة رفاق الحرب والسلم في عواصم الحلف الغربي وقف العمل باتفاقية روسية أمريكية تنظم إنتاج والرقابة على الصواريخ متوسطة المدى فترد روسيا بإنتاج صواريخ أكثر تقدما وتهديدا لكل أوروبا وقواعد أمريكا في الشرق الأوسط وإفريقيا.

العلامة الثالثة وكانت حول انكشاف حجم وخطورة هذا الفراغ الهائل في قيادة النظام الليبرالي الغربي، وهو الفراغ الناجم عن تخلي الولايات المتحدة عن تعهداتها ومسؤولياتها كقائد للغرب الديمقراطي والليبرالي. شاهد على هذا الفراغ التوسع المتزايد في مساحة التراجع عن الالتزام بالديمقراطية والانحسار المتفاقم في مواقف الدول الغربية من التجاوزات في احترام حقوق الإنسان وحماية الحريات.

رابعا، أي العلامة الرابعة. كانت واضحة لكل المراقبين والمسؤولين عن الأمن العالمي ظاهرة تراجع الاهتمام باحترام وتنفيذ الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي والولاء للدساتير وسيادة الدول. التراجع في حد ذاته ليس جديدا ولكن الجديد والمذهل هو في تفاقمه بتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية.

العلامة الخامسة وتتعلق بدور الولايات المتحدة في دعم حكام تسببوا في إضعاف هيبة القانون ونصبوا أنفسهم فوق الاتفاقات والدساتير.

كذلك فرضت العلامة السادسة نفسها على مناقشات المؤتمر ومن قبلها على كل المداولات التي دارت مؤخرا وتدور في محافل الدفاع والأكاديميات الغربية منذ أن تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإهمال المتعمد في التعامل مع مشكلة ارتفاع درجة حرارة الأرض صار يمثل تهديدا مباشرا وعاجلا للأمن الدولي. أتصور أن الإعلان عن هذا الموقف من أزمة المناخ في قاعات المؤتمر كان في حد ذاته اتهاما صريحا من أعلى هيئة استشارية في مجتمع الأمن العالمي للولايات المتحدة بأنها بإهمالها وعنادها صارت هي نفسها أحد أهم عناصر تهديد الأمن العالمي.

توصلنا إلى العلامة السابعة نتيجة رصدنا لإشارة ترددت مرارا خلال المؤتمر عن حقيقة ما كان يمكن أن يهملها أو يتجاهلها المؤتمر وهي أن الاتحاد الأوروبي عاجز عن لعب دور مؤثر في المنافسة الثلاثية الدائرة بين أمريكا وروسيا والصين على قيادة العالم، ليس فقط بسبب الخلافات الناشبة بين ألمانيا وفرنسا أو بسبب الصعود الجرئ وغير المتردد لتيار الشعبوية القومية ولكن أيضا بسبب التدخل “التخريبي” الروسي في شؤون الاتحاد الأوروبي وداخل كل دولة أوروبية على حدة.


أزمة فنزويلا كانت أيضا كاشفة، فالغرب منقسم على الأسلوب الأمثل للتعامل مع حكومة مادورو. كان واضحا وسوف يزداد وضوحا عندما تعلن واشنطن عن نيتها تفعيل مبدأ مونرو الصادر عام 1833. صدر المبدأ ليمنع دول أوروبا من التدخل في شؤون أمريكا الجنوبية وأظن أن دولا غير قليلة العدد في هذه القارة سوف تتمرد على أي هيمنة أمريكية جديدة لو حرمتها واشنطن من حق استدعاء دول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا للتدخل في شئونها أسوة بما سوف تلجأ إليه دول آسيا والشرق الأوسط في حال استمرت السياسة الخارجية الأمريكية متمسكة بالنهج الراهن. واقع الأمر هو أن أمريكا تخشى التدخل الأوروبي أكثر مما تخشى تدخل الصين وروسيا فالثقافة السائدة في دول أمريكا اللاتينية تشجع بطبيعتها التدخلات الأوروبية ولن ترتاح إلى غزو صيني ولن تتحالف مع روسيا إلا تحت ظروف قاهرة. الخوف الأمريكي من أوروبا ما يزال يعبر عنه مبدأ مونرو أحسن تعبير.


العلامات كلها تنبئ بعام سوف يشهد تغيرات هامة ليس فقط على صعيد التحالفات القائمة وخرائط انتشار القوة والنفوذ ولكن أيضا على أصعدة العلاقات الثنائية بين القوى الكبرى والدول المتوسطة والصغيرة. ليس مستبعدا أن تفكر الدول العظمى في أن تبدأ بتسوية خلافاتها في أقاليم جوارها قبل أن تنتقل إلى ساحات أبعد غنية بثرواتها أو تعيسة بفقرها وتخلفها، وفي كل الأحوال لا يبدو أن ما هو قادم في ضوء ما كشفت عنه مؤتمرات الأمن سوف يحظى برضا شعوبنا ويحقق بدون متاعب قاسية بعض أحلامها.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version