“حكواتي” حديث هو، حسن داوود.
بحر الذاكرة واسع المدى، وهو يغرف منه باستمرار، ويمضي يسرد، ويسرد ويسرد، مستعيداً تفاصيل التفاصيل بعد أن ينظمها في سياق يحفظ لها المعنى الذي سرعان ما يلد عملاً روائياً جديداً.
ولأن حسن داوود قارب الصحافة فقد أفاد من حرية الحركة فيها، وطعَّم أسلوبه في الكتابة بما أخذه منها من دون أن يسمح لها بأن تأخذه كله إلى رحابها وأن تفرض عليه ”تقاليدها“ التي عادة ما ”تقرض” الموهبة أو تعيد تشكيلها بما يتلاءم مع مقتضيات السرعة والإيجاز إلى حد ابتسار المعنى أحياناً.
حسن داوود يملك من الوقت ما يكفي لكي يستعيد شخصياته فيكمل بناءها وفق رؤيته الفنية. إنه لا يتدخل فيفرض على أي من الشخصيات لباسه أو لغته، ولكنه يستمر في ضبط الحركة بحيث لا يتسلل أحد خارجاً من الإطار الروائي الذي حدده.
في لحظة، يتملّك منك الشعور أمام مجموعة لوحات أو ”بورتريهات” لرجال وقلة من النساء التي لا ينظمها ناظم، إلا رغبة حسن داوود في تصويرها أو رسمها وفي لصق الواحد منها إلى جانب الآخر. لكنك سرعان ما تكتشف أن الكاتب أمكر مما قدّرت، وأنه نسج الشبكة بهدوء من حولهم جميعاً وأمسك بالخيوط فإذا هو يحرّكهم ببطء ويدفعهم دفعاً إلى حيث أرادهم أن يصلوا.
ولأنه ماكر، فقد استطاع حسن داوود أن يحوّل سنوات طفولته إلى روايات، وأن يحوّل كل من عرف في البيت أو في الفرن أو في الطريق بينهما إلى شخصيات روائية، وأن يحوّل همومها الصغيرة ومتعها الصغيرة إلى وقائع تصطنع إذا ما أعيد سردها بشيء من الترتيب عملاً فنياً فيه من صنعة الكاتب القليل وفيه من حرفة ”الريبورتر” الصحافي أكثر.
“ سنة الأوتوماتيك” تقنعك بأن ركاماً من التفاصيل الصغيرة يمكنها أن تتحول إذا عالجها قلم متمكّن إلى شهادة على مأزق التحولات التي يعيشها المقبل على تطور لم يهيئ نفسه له.
ولا يظننّ أحد أن حسن داوود قد أراد أن يقدم وجهاً آخر، لبنانياً هذه المرة، لصراع الإنسان مع الآلة، أو مع التقدم إجمالاً، لكن الرواية في النهاية قدمت صوراً إن أنت جمعت بعضها إلى بعض لدهمك مثل ذلك المعنى فجأة وعلى غير توقع أو انتظار.
الآلة؟!
يظل للمرأة، صبية أو في خريف العمر، عربية أو أجنبية، قريبة أو بعيدة، النصيب الأعظم من الاهتمام والتفكير والرغبة والدور.
ومع أن وجود ”المرأة” في ”سنة الأوتوماتيك” باهت إجمالاً، إلا أنها تظل ”البطل” حتى لو أُسقطت بعض صفاتها، أو بعض مشكلات التعامل معها على فرن أوتوماتيكي يبنى بالتدريج ليستولد حالة كتلك التي اقتبس حسن داوود وصفها من ”لسان العرب”: ”أصابتهم السنة، وهي القحط والجدب”.