طلال سلمان

الحزب الشيوعي اللبناني: أوهام جديدة بخطاب قديم (2)

في الجزء الأول من هذه المقالة، قاربنا منهجية تعامل الحزب الشيوعي اللبناني، تاريخاً وحاضراً مع وثائقه الفكرية ـ السياسية، ولا سيما من خلال الوثيقة البرنامجية التي أقرها المؤتمر الثاني عشر للحزب في شباط/فبراير الماضي. في الجزء الثاني والأخير، يتمحور التقييم حول المضمون اللبناني والعربي للوثائق الحزبية المؤتمرية.

يخلو الحديث عن الوضع اللبناني من النقد لتجربة الحرب الأهلية التي شارك فيها الحزب الشيوعي اللبناني بجدارة، وفي قيادة فريق منها. أصبحت رواية تاريخ لبنان المعاصر عند جميع الأطراف تقريباً محذوفة من السردية كي لا يتطرّق كل حزب الى الارتكابات التي مارسها هو وغيره من الأحزاب والتنظيمات. بذلك استحال النقد الذاتي وصار النقد مقتصراً على الآخرين. وفي ذلك تبرئة للذات. تطوّر الأمر الى إلغاء التاريخ عملياً، إذ أن الاقتصار على جزء منه يضرب التسلسل. تفرط سلسة التاريخ ويفقد صفته الأساسية لحلقات متواصلة الأحداث. وبالتالي يغيب التقييم والنقد، ويصاب أصحاب هذا التاريخ بالثمالة، إذ استطاعوا تدميره.

يؤدي تدمير التاريخ الى رؤى موروبة حول ما تبع الحرب الأهلية. اتفاق الطائف ما استطاع أن يكون دستوراً للخروج بنظرهم من الحرب الأهلية، علماً بان الخروج لم يكن إلا بتسوية بحجم اتفاق الطائف. تتحوّل الثلاثون سنة التي تلت الطائف الى مقولة مجردة كمصدر للاحكام، خاصة فساد تلك المرحلة، دون ذكر ما حدث خلالها من تقدم وازدهار المجتمع وانتعاش الطبقات الفقيرة. لم تعد تنفع مقولة الثلاثين سنة الأخيرة سوى للتزوير التاريخي، وإبراز الفريق الأقوى الذي قادها بزعامة رفيق الحريري. هذا ما سهّل إلصاق التهم به، علما أنه قتل في منتصف هذه المرحلة، وقد كانت مرحلة ازدهار ونهوض. وحكم في النصف الثاني من هذه الثلاثين سنة عهدان رئاسيان بتوجيه وقيادة حزب الله. في هذه المرحلة، بدأ التراجع وصولاً الى الانهيار الذي نعانيه، وسقوط الطبقة الوسطى الى ما هو أدنى في السلم الاجتماعي، وسقوط الطبقات الأدنى الى الفقر، وبعضها الى الفقر المدقع، حيث لا يكفي المدخول لتأمين ضروريات الحياة، هذا إن توفرت لهم. خرج التاريخ من كونه علما ليصبح وجهة نظر. مجرد ايديولوجيا بائسة. كما كتب ماركس كتاب “بؤس الفلسفة”، يستطيع أحد باحثينا أن يكتب طويلاً في بؤس الايديولوجيا.

يعتبر الحزب الشيوعي اللبناني نفسه أنه هو حزب الطبقة العاملة. ليت الطبقة العاملة اعترفت له بهذا الشرف. ربما كانت الطبقة العاملة تصنّف كذلك بسبب موقعها في سلم المداخيل ونوعية عملها، لكن هل هي تشكّل طبقة دون أن تعي نفسها كذلك؟ وكيف تصبح فاعلاً اجتماعياً دون ذلك؟ وإذا كان المرء في لبنان تصادره طائفته منذ أن يولد، فهل يتشكّل وعيه إلا طائفيا؟  وهل الانتماء الطبقي أقوى من الانتماء الطائفي؟ هل يقترح الحزب التحالفات للتعويض عن هذا الضعف؟ علما أن التحالفات ضرورية في كل آن وفي كل مكان.

لبنان لا يتشكّل من طبقات بل من طوائف مسيطرة على الأفراد في الفكر والعمل. ألا تستحق التشكيلة الاجتماعية تحليلاً أكثر مما ورد؟ التشكيلة الاجتماعية مصدر الفعل والسلوك والفهم لدى أفراد المجتمع اللبناني. الطبقة السياسية (الرأسمالية) تعرف ذلك، وتعمل على أساسه. الحزب الشيوعي يعي ذلك بدرجة أقل لكنه لا يعتبر ذلك أولوية في برنامجه السياسي. هذه آفة اليسار عموماً منذ بدء الخليقة. ننجح في نضال مطلبي تعبيراً عن مطالب طبقية. لكننا نفشل في نضال سياسي يكون متلائما مع التشكيلة الاجتماعية. الى أي مدى إذن، نفهم مجتمعنا؟ وإذا فهمناه فلماذا لا نناضل على هذا الأساس؟ ولماذا نناضل على أساس برامج مستوردة من بلدان خلت من الطوائف كما نعرفها؟ أليس في ذلك تبعية فكرية لأحزاب شيوعية في دول أرقى ثقافياً وأعتى في النضال الطبقي؟ وهل ذلك إلا نوع من التبعية الفكرية؟ في مطلع التقرير كان البدء  بنقد التبعية، وهذا صحيح. وصحيح أيضاً أن النظام الرأسمالي تطوّر للأمولة. وصار الرأسمال المالي مسيطراً على الرأسمال الإنتاجي. وصار اقتطاع القيمة الزائدة، الربح أو ما زاد عن الأجور وهي الحد الأدنى الذي بالكاد يكفي لمستلزمات المعيشة الضرورية، يتم لا على أرض المعمل أو في المزرعة، بل على الأكثر في بورصات تبادل المال والأوراق المالية والأسهم. وشاع العمل الفكري، الى جانب ذلك، لكننا ما زلنا عاجزين عن تحليله على أساس النظرية الماركسية، بالأحرى على أساس فهمنا لهذه النظرية. وبالتالي، هل الاقتصاد العالمي إلا اقتصاداً ريعياً، حيث المال ينتج المال، والربح ينتج الربح. وحيث الثروات تتراكم دون استثمار في الصناعة أو الزراعة أو في أي عمل منتج، إلا بالاستثمار في المال؟ تحوّل المال الى هدف بذاته ولذاته. لم يعد مجرد أداة للتبادل وقياس القيمة. صار هو القيمة. تحوّل عمل الناس من وسيلة لإنتاج ما يلبي الرغبات الى أداة بيد الرأسمال لإنتاج مزيد من الرأسمال (مراكمة الربح). صار مركزاً لعبودية جديدة تصدرها البلدان الرأسمالية من المركز الى الأطراف. لا تستخدم الناس عبيداً في بلادها بل عبيداً في بلادهم. وتحمي هذه العبودية منظومة بلدان “التحرر الوطني”. تسمية الصين على أنها “بلد صاعد” لا تفيدنا في فهم الصين كبلد رأسمالي، يبيع الأيدي العاملة للرأسمال الغربي، بما في ذلك الصيني، والنخب الرأسمالية في العالم موحدة الموقع أو الوضع الاجتماعي الوطني والعالمي.

ما لا يناقشه مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني هو نجاح الرأسمالية في تجديد نفسها، وزيادة وتكثيف استغلالها للجنس البشري. في حين يكثر الحديث عن أزمة الرأسمالية وأزمة النظام العالمي، بما في ذلك العولمة التي يُكتب في أمكنة أخرى الآن عن نهايتها بمناسبة حرب أوكرانيا. أزمات الرأسمالية تتكرر، لكنها عرفت كيف تجدد نفسها ولو على حساب البشرية. ما جددت الرأسمالية نفسها بعد أزمة 2008 إلا على حساب الفقراء ودافعي الضرائب الذين ازدادوا فقراً، كي يذهب ما يُسلب منهم لدعم الشركات الكبرى المتعثرة؛ وهذه ازدادت فيها رواتب وجوائز وحصص مدرائها وكبار المساهمين فيها، وازداد عدد أصحاب الثروات بالمليارات من الدولارات، بينما معظم البشرية كان يغرق في الفقر المدقع.

أزمة الفقراء، وهم أكثرية البشرية، هي الأزمة التي لا شفاء منها على المدى المنظور، ولمدة طويلة. آفة اليسار عموما، والشيوعيين خاصة، أنهم يتحدثون على الدوام عن أزمة الأغنياء. وهؤلاء أصحاب قدرة على تجاوز أزمتهم. ولا يكثرون الحديث عن أزمة الفقر والفقراء الذين لا يملكون الوسائل للخلاص منها. إذا كان أصحاب الدين موعودين بالخلاص في السماء، فغير المؤمنين لا خلاص لهم في السماء أو على الأرض.

أما الثورة العربية عام 2011، فلم ير المؤتمر أنها حدثت في وقت واحد تقريبا في كل البلاد العربية. ودلالة ذلك على ان الشعوب العربية تسير بوتيرة واحدة استجابة لتطورات التاريخ، وأنه تبعاً لذلك لن تكون الوحدة العربية إلا وحدة دول إن حصلت. وحدة الشعوب في “انتفاضة” واحدة من المحيط الى المحيط دليل على وحدة الشعوب. ولم ير المؤتمر أهمية مطلب “الشعب يريد إسقاط النظام”. والنظام هنا هو منظومة أنظمة أورثتنا إياها حركات التحرر الوطني وغاصت حتى أذنيها بالتبعية. إرادة الشعوب كانت كما أعلنتها شعارات الثورة: “عيش، كرامة، عدالة اجتماعية”. وأن الحائل بينها وبين ذلك هو الأنظمة. رفضت كل الإرث المتراكم من إلقاء لائمة التخلف والتأخر على الخارج، وأن الحل في الداخل. ورفضت الشعار الديني “الإسلام هو الحل”. لم يفهم الإسلاميون معنى ذلك، وسقطوا بسبب ذلك. اعتبر هؤلاء أنهم سوف يركبون موجة الثورة لكن المواجهة أزاحتهم. كانت المواجهة بين الناس بثورتهم والثورة المضادة. فهمت الطبقات الحاكمة العربية مغزى الثورة (الثورات العربية)، فتضامنت للقيام بثورة مضادة عن طريق القمع حيناً، والحرب الأهلية حيناً آخر، أو التنازلات في بلد آخر، أو بذل المال للناس لإسكاتهم في بلد نفطي. لا تعرف الثورة المضادة، وهي طريق الأنظمة الحاكمة، على اختلاف ميولها الاستبدادية سياسياً أو دينياً، سواءً عربية أو إيرانية أو تركية، سوى العنف والقوة، انتهاءً بالحرب لمواجهة شعوبها وقمعها. المهم في الثورة العربية، حتى فيما يتعلّق بقضية فلسطين، أن التعويل على الداخل لا الخارج هو الأساس، وجوهر ذلك هو العمل والتقدم والإنتاج من أجل عيش كريم وعدالة في التوزيع.  وفي ذلك خالف العرب طريق الأتراك والإيرانيين بعد معاناتهم من التدخل الخارجي في بلاد العرب واحتكار قضية فلسطين (ايران)، واستبدال العروبة بالمقاومة (إيران)، والتلاعب على القضية العربية والفلسطينية (تركيا). وأعلنت الشعوب العربية تجاوز عقدة الخارج، والاتجاه الى داخل كل قطر عربي للإصلاح والتقدم. تُعاقب الشعوب العربية على هذا الخيار، وكان التطبيع مع إسرائيل أحد أشكال العقوبة. وخيضت في المشرق العربي على الأقل حرب عالمية ضد الناس، شاركت فيها روسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا، والتي “ركبت رأسها” بعد مجازر ارتكبت في الشيشان، ثم دخولها جورجيا، ثم كازاخستان ضد شعبيهما دون مواجهة؛ وهي التي تخاض ضدها حرب عالمية بعد أن “خدعوها بقولهم حسناً”، كما فعل الأميركيون مع صدام حسين وخداعه ليدخل الكويت ويشن قبلها حرباً ضد إيران، التي لم ينقذه منها إلا التدخّل الأميركي بسلاح سُمي نوعياً لإجبار إيران والخميني على تجرّع كأس السم عام 1988.

حروب تحل فيها السياسات الجيوبوليتيكية بين الدول مكان صراعات الداخل. وأهم صراعات الداخل هو الصراع الطبقي الى جانب الصراعات الإثنية القومية. حروب عالمية موضعية تجتمع فيها قوى النظام العالمي العظمى والعظيمى في مكان واحد بدل أن تكون في كل الأماكن على الأرض. في كل منها خطر استخدام السلاح النووي أمر وارد. حروب إبادة وأرض محروقة، كما في سوريا والعراق واليمن وأوكرانيا الآن. يختلف أطراف النزاع العالمي في أوكرانيا لكنهم يتحالفون ضد شعوب منطقتنا العربية. للعرب معاملة خاصة في النظام العالمي. هذا ما لم يلحظه مؤتمر الشيوعيين اللبنانيين. والمسألة ليست في حركات تحرر وطني تواجه التبعية بل في إيغال هذه الحركات في التبعية والتحالف مع ما تيسّر من امبراطوريات ضد الشعوب العربية. المسألة هي أن لا يستخدم مفهوم “التبعية” في سبيل عزلة ثقافية عن الغرب وعلومه وثقافته. ينتهي الأمر الى الوقوع في فخ الأصولية الدينية. وأن لا تعتبر حكومات المنظومة العربية الحاكمة معادية للاستتباع. هي جزء من حرب إبادة ضد الشعوب العربية لصالح أنظمة الاستبداد والامبراطوريات التي تساندها.

انطلقت مقررات مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني من رؤية للعالم، ترى من خلالها أوضاع المنطقة ثم أوضاع لبنان. هذه الرؤية هي في أساسها مغلوطة وغير صالحة لفهم ما يجري. جوهر القضية النضالية ليس التحرر الوطني بمعنى تحرر المجتمع من الخارج، بل هو الحرية داخل كل مجتمع. كلنا مجتمعات مغلقة معدومة الحريات الفردية. والتحرر يبدأ من هنا لا من الخارج كما اعتبر ورثة حركات التحرر الوطني. مجتمع مفتوح لا يحيط نفسه بسياجات ضد الخارج، ومدافع عن الحرية والمشاركة، هو بداية السير نحو الاشتراكية. لا تجد الطبقات المقهورة والمستغلة نفسها إلا في مجتمع من هذا النوع.

Exit mobile version