طلال سلمان

الحرب الإسرائيلية المفتوحة من صبرا وشاتيلا إلى غزة فلسطين

مع انتصاف أيلول من كل عام تهل علينا في بيروت أفواج المناضلين الأوروبيين بغالبيتهم الايطالية ليحيوا معنا ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها السفاح الإسرائيلي أرييل شارون وجنوده بالتعاون مع أعداد من ميليشيا حزب لبناني عنصري العقيدة بغلاف التعصب الطائفي.

قد ننسى فلا ينسون، وقد نقصر فلا يقصرون: واضح أنهم يقتطعون من مصاريفهم الشخصية أثمان التذاكر، ويفيدون من إجازاتهم لكي يجيئوا في الموعد، كل عام، رجالاً ونساء، معظمهم من الكادحين، وبينهم بعض النواب وشخصيات من بعض أحزاب اليسار.

كان قائد الحملة السنوية، على امتداد أعوام طويلة المناضل ستيفانو كياريني، الذي كان يرأس تحرير جريدة ستامبا، وهي لسان حال الحزب الشيوعي الإيطالي، وكانت تصحبه شقيقته ـ وابنته ـ فلما غيّبه الموت أصرّت شقيقته وابنته على متابعة مسيرته النضالية.

وكان الوفد يجول في أنحاء الجنوب فيزور مخيمات اللاجئين في بعض أنحائه، مع وقفة مطولة عند معتقل الخيام الذي مارس فيه الجنود الإسرائيليون، على امتداد فترة احتلالهم منطقة جنوبي الليطاني، أصناف التعذيب حتى القتل وامتهان كرامة المناضلين لبنانيين وفلسطينيين بغير تمييز.

كنا نتلقى الزيارة كلفتة تضامن ومساندة تعبّر عن موقف نضالي أممي.. وكان الأهالي في مختلف المناطق التي يزورونها يستقبلونهم معتزين بتضامنهم اذ يشعرهم انهم ليسوا متروكين للريح، وأن في هذا العالم الذي يكاد يهيمن على قواه الحاكمة نفوذ الحركة الصهيونية من يستمر في تعاطفه مع الشعب الفلسطيني الذي أُخرج من أرضه وتم تشريده في أربع رياح الأرض، كلاجئين، غالبا ما يتعرضون لهجمات وممارسات عنصرية تضيّق عليهم أسباب حياتهم، فتمنعهم من العمل، حتى لو كانوا خريجي جامعات محترمة، أطباء وصيادلة ومهندسين، ما يضطرهم إلى الهجرة نحو بعض أنحاء أوروبا وكندا أو أميركا الجنوبية، وإجمالاً حيثما توفرت لهم الفرصة لتأمين الخبز مع الكرامة.

الذروة في هذه الزيارة تتمثل دائماً في إلقاء التحية على شهداء المجزرة الذين ناهزت أعدادهم الألف وخمسمئة بين رجل وامرأة وطفل وعجوز، بعضهم دفن حياً، وكانت مقبرتهم مهملة فتمت العناية بها كتعبير عن احترام هؤلاء الذين سُفكت دماؤهم غدراً وبلا قتال، وفي قلب العتمة، ما اضطر القتلة إلى استخدام المصابيح لتبيّن طريقهم داخل المخيم الذي كان غادره المقاتلون قبل أيام، بناءً على اتفاق برعاية دولية ذاهبين إلى المنافي البعيدة في اليمن وموريتانيا وتونس التي استقرت فيها ـ بصورة مؤقتة ـ قيادة منظمة التحرير.

ليس شهداء صبرا وشاتيلا وحدهم ضحايا السفاحين الإسرائيليين الذين لا يميزون بين ضحاياهم لأن الشهوة إلى القتل تحكم تصرفاتهم.

هذه هي الحروب الإسرائيلية على غزة لا تكاد تتوقف نيرانها حتى يتجدد إشعالها من جديد، وتنطلق حمم الطائرات والمدفعية وصواريخ الدبابات تدك بيوت هؤلاء الذين هجّرهم العدو الإسرائيلي من بيوتهم في قراهم ومدنهم مرة ومرتين وثلاثاً، فتكدسوا في أنحاء هذا القطاع المحدود المساحة حتى ناهزوا الملايين الثلاثة من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وسط حصار بري وبحري وجوي، حتى لتكاد غزة ورفح وخان يونس وجباليا والشاطئ والبريج والمغازي ودير البلح تتحول إلى معتقل كبير بموارد ضئيلة قوامها ما تعطيه الأرض وما يحوّله الأبناء من مغترباتهم وبعض المساعدات التي تقدمها وكالة غوث اللاجئين أو بعض المنظمات الاوروبية، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي.

الحرب الإسرائيلية هذه السنة استطالت لحوالي الشهرين، وقد دمرت مئات البيوت وعشرات المساجد فضلاً عن مدارس وكالة الغوث، وحصدت أكثر من ألفين ومئتي شهيد وحوالي 12 ألف جريح.

***

ليس للفلسطيني دار أمان في بلاده.. فهو مطارد بالقتل الإسرائيلي أو بالموت قهراً وأرضه تُنتزع منه لبناء المزيد من المستوطنات. يزرع الزيتون فيداهمه المستوطنون بحراسة الجيش الإسرائيلي فيقتلعون الأشجار ويطردون أهل الأرض الذين هم أهلها منذ آلاف السنين لكي “يمنحوها” لوحوش المستوطنين المستقدمين من أربع رياح الأرض، والذين ليسوا جميعاً من اليهود، والذين كانوا يعيشون في أمان في بلادهم، في بعض أنحاء أوروبا بغربها عموماً وبشرقها خصوصاً، فأُتي بهم ونُصّبوا “ورثة” للفلسطينيين في أرضهم، يخرجونهم منها بالقوة ليبنوا مستوطناتهم فوق الأرض التي لم يعرفوها من قبل… ولم يولدوا فيها، ولا آباؤهم كانوا يعرفونها، ولا هم سقوها من عرق جباههم، وابتنوا فيها دور سكنهم، ولا هم غرسوا زيتونها والبرتقال، وزيّنوا نوافذ بيوتهم والمداخل بالياسمين والورد… بل انهم أغراب تنكرهم الأرض ولا تشرّفهم بهويتها، أخذوها قهراً وجعلوا أهلها لاجئين، إن هم وجدوا المأوى لم يجدوا فرصة الحصول على خبزهم بعرق جبينهم حفظاً لكرامتهم.

لقد باتت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة دورية، مرة كل سنتين، تعيد هدم ما بناه هؤلاء الذين يكادون بلا موارد، ويفرض عليهم أن ينتظروا “كرم” الإخوة من أهل النفط، على وجه الخصوص، الذين باتوا الآن يديرون وجوههم إلى الناحية الأخرى حتى لا يشهدوا تدمير البيوت والمساجد والمدارس والمستشفيات… فإذا ما اضطروا إلى الإشارة إليها تجاهلوا القاتل ـ المدمر ـ هادم العمران وتعاملوا معها وكأنها نتيجة زلزال أو بركان وليس فعل فاعل كان عدواً لجميعهم وهو الآن عدو لجميعهم وسيبقى عدواً لجميعهم، مهما تنازلوا عن حقوقهم، ومهما أهدروا من كراماتهم على بابه مباشرة أو عبر واشنطن.

ولقد زاد الطين بلة انصراف مصر على وجه التحديد، عن نجدة غزة، أو فرض حمايتها عليها لدرء العدوان الإسرائيلي، نتيجة الصدام الذي وقع بين الإخوان المسلمين إبان فترة حكمهم القصيرة والشعب المصري والذي حسمه الجيش (مسانداً بالطوفان البشري الذي ملأ ميادين القاهرة والمدن والقرى وحتى النجوع في الأرياف معلناً رفضه حكم الإخوان).

ومن أسف فإن الحكم الجديد في مصر بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي لم يستطع أن ينسى ما فعله الإخوان بمصر، فمد العقاب حتى شمل “إخوان” غزة الذين بدورهم لم يبادروا إلى طمأنة القيادة المصرية إلى أنهم لن يكونوا طرفاً في حرب الإخوان على العهد الجديد في مصر.

على العكس من ذلك، فإن تصريحات بعض كبار القياديين في “حماس” كانت تغمز من قناة مصر وسائر الدول العربية، لتكيل المديح لقطر وتركيا وبعض الدول الأوروبية… حتى ومصر تتولى رعاية المفاوضات لوقف إطلاق النار.

في أي حال لقد برهن الشعب الفلسطيني في غزة أن إرادة القتال عنده أعلى مما كانت في مواجهة الحروب الإسرائيلية السابقة على هذا الشريط الضيق من الأرض، المعزول عن الدنيا بالحصار… بل ان نيران الوحش الإسرائيلي قد طاردت الأطفال وهم يرمون أنفسهم في البحر، كما طاردتهم في المدارس التي تحوّلت إلى ملاجئ، ولم توفر مسجداً أو كنيسة بل هي تعمّدت تدمير أي مبنى تشتبه بوجود المقاتلين فيه أو من حوله.

هكذا حوّلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المدن والقرى في غزة إلى ركام، لا فرق في الاستهداف بين الأبراج السكنية وبيوت الفقراء.

ان العدو هو العدو: في غزة ورفح وخان يونس، أو في رام الله وما تبقى من القدس الشرقية، في الخليل ونابلس وقلقيليه، وفي من تبقى في عكا وحيفا من أهاليها الأصليين.

والعدو هو العدو: قاتل الأطفال والنساء، قاتل البيوت والمدارس، قاتل العصافير والزيتون والياسمين.
لقد أقام دولته بالقتل الجماعي، وهو ما زال يحصّنها بالقتل الجماعي، من دون تفريق بين الرجال والنساء والأطفال.

وهذا بالضبط ما حصل في مخيمي صبرا وشاتيلا حين اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان في صيف العام 1982… فالمخابرات الإسرائيلية كانت تعرف أن المقاتلين والشباب عموماً قد غادروا المخيمين، إما من خلال الترحيل الجماعي عبر مرفأ بيروت، وإما باللجوء إلى أقارب وأصدقاء وجيران من اللبنانيين في مناطق بعيدة عن المخيمين.

***

فأما العدو فهو العدو..

وأما الصف الفلسطيني فقد تعمق فيه الانقسام إلى حد أن الحرب الإسرائيلية، بكل ما ألحقته من خسائر في الأرواح والعمران، لم تقرب بين المختلفين من أهل السلطة وتنظيم حماس.. بل ان وقف النار الإسرائيلية سرعان ما أظهر إلى العلن أن هذا الخلاف قد تعمق أكثر فأكثر منذراً بنتائج مأساوية على القضية ووحدة أهلها.

وهكذا فإن إعادة إعمار ما هدّمته الحرب الإسرائيلية الجديدة على شعب فلسطين مهمة جليلة تبحث عمن يتولاها.. فالدول العربية، لا سيما الغنية منها، قد أدارت وجوهها إلى الناحية الأخرى، تاركة المهمة لبعض دول العالم البعيد، وبالذات دول شمال أوروبا.

وأخطر ما في الأمر أن يتعامل العالم مع غزة وكأنها “كيان مستقل” عن سائر فلسطين، مكرّساً سلخها أو انسلاخها عن وطنها الذي كان وطنها وسيبقى وطنها، بغض النظر عن الخلاف بين “السلطة الشرعية” ممثلة بالرئيس محمود عباس وما تبقى من منظمة التحرير وبين “حماس” ومن ساندها فقاتل بما ملكت يمينه من سلاح العدو الإسرائيلي وهو يحاول تدمير قدرات المقاومة في غزة التي شكلت مفاجأة صاعقة لهذا العدو.

مرة أخرى يتبدى شعب فلسطين مقاتلاً صلباً، يواجه العدو ببطولة، ويصمد لنيرانه مهما عنفت..

لكن هذا الشعب العظيم ما زال يعاني من الخلاف بين قياداته والتنظيمات التي تتباعد، لا سيما منها فتح وحماس.
وهذه أعظم جائزة يمكن ان تقدم للعدو الإسرائيلي على حساب دماء الشهداء، بالمقاتلين منهم والنساء والأطفال وعموم الأهالي الذين تتوزعهم الانتماءات المختلفة فتمنع وحدتهم، وتقدم للعدو الإسرائيلي خدمة جليلة على حساب شعب فلسطين وحقوقه في أرضه، وأولها حقه في الحياة.

“السفير” 15 أيلول 2015

Exit mobile version